من الآثام الصباحية الاختلاء برواية كاتبها سافل،لأنك ببساطة شديدة لن تستطيع مع شهوة الحرف صبراً علی لعق النّص من أوله حتی آخر البياض المراوغ بغبش، وكمن يحاول إزالة الغبش بقطعة قماشية بالية عن الوقت الداكن فوق الذكرى البعيدة ويحاول الاندساس تحت معطف غطّاه ندف الثلج.
الروائي إذا ادعی البراءة وتواضع كثيراً، ثق تماماً أنه يمارس التورية ويحرضك علی اكتشاف نصه بلؤم لذيذ، كذلك فعل معي الروائي وليد الشيخ، حين طلبت منه نسخة من روايته الوحيدة "العجوز يفكر بأشياء صغيرة"، قال: "هي ليست رواية إنما حماقة صغيرة".
في هذه الرواية، في ماضي غسان ومريم وأمثالهم كثر، تزاوجت الأفكار والمبادئ، فولدت الأسطورة والرّغبة وانبثقت الإرادة، فأمسك الشباب والفتايات بمفاتيح المبادئ وأسرارها المقدسة، لكنهم لم يحسنوا تصرفاً، فأصبح البشر مهددين بالموت في كل لحظة وسكنتهم الوحشة، وما عادوا يستطيعون المقاومة سوى بالقلب ما دامت رغبتهم في الحب والحياة هي رغبتهم في الخلود، وما دامت الروح ترفرف ولم تهرب من الجسد لتلتحم بآلامهم في رضاع أبديّ ليس من ورائه فناء ما صنعوا.
وكما انشغل غسان بالماضي كذلك كان الكاتب، ما أن يلتفت إلى الواقع برهة، سرعان ما كان يعود برأس السطر إلى ماضيه، كمن يقف على ضفّة بحيرة أزلية، كرقعة مائية ضخمة، تكوّنت بمعجزة الأشياء الصغيرات وسط صحراء الحاضر القاحلة، والذاكرة سماء سائلة، اختبأت فيها الصور واللقاءات وشجاراتهم العابرة ذات نقاشات مبتورة حتّى صارت الشّمس التي تلد الحياة تحرق الذكريات وتضرم النار في البطين، في شيخوخته، وبطريقة غامضة، تتخذ صورة لنفسها تحت ندف الثلج هرباً من شكل العجوز المتمرد عليه بصمت، لا هي أحرقته ولا الثلج أطفأ لهب الحنين.
رواية هي فيض من المحيط الأزلي لذاكرة ذاك الجيل الحالم، واهبة الحياة لكل البشر، وضمنت بقاء المبادئ المستمر، على عكس أغلب الفصائل الأخرى التي أصابها الفتور، كذلك ضمن لها الكاتب الخصوبة والحيوية وجعل أرضها خصيبة عبر طرح الذاكرة. تكفّل غسان، باستمرار حياة المتلقي في النّص عبر انتظاره اللذيذ لرسائل مونتريال، من هنا تجيء أهمية الحياة، أن ننتظر شيئاً ما، يقل في مستواه عن مستوى ما نملكه، لكنه يجعل لنا فسحة مريحة، مسافة كبيرة.
تلتحم بالحاضر عبر فرعه الصغير الضيق، في موسم البرد الحنينيّ، يصعب على أحد مقاومة هذا المجهول القاتم وغضبه الثائر على قراراته غير المفهوم لما اتخذت.
أن ينحسر الفيضان، أن يعود النهر إلى حالته الطبيعية، يقلب أشياء العجوز الصغيرة السابحة على صفحة الماء أو الراسية إلى ضفاف النهر، يهلك من يهلك، يهجر ذاكرته من يهجر، ويتركه فريسة لفيضان آخر.
الجميل في هذه الرواية أن الكاتب، وإن لم يقف موقف"الحياد"، لم يحاول ادعاء المثاليّة، ولم تمارسها أي من شخوص روايته، وهذا ما يجعله أكثر صدقاً وتصديقاً.
لست أدري لماذا شعرت أن الرسالة الأخيرة من مونتريال، والّتي لم تصل، كان يجب أن تحمل السؤال "ترى هل كان ندف الثلج إشتراكيًّا، أم أننا أشركنا في كل شيء حتّى بتنا دون خصوصية؟"