قادتني قراءاتي الإلكترونية في الأسبوع الفائت إلى مقال ممتاز قرأته في أحد المواقع الثقافية العربية عن رواية صدرت مؤخراً في أفغانستان، للروائي خالد حسيني، التقط كاتب المقال هامشاً أخّاذاً في مراجعته للرواية، وانصبت المراجعة عند هذا الهامش. يقول: "باختصار، تضعنا الرواية في مواجهة مع فكرة "أنسنة التخلّي". ومع أن لا جدل في كون التخلّي في طبيعة الإنسان، إلا أن تسيير هذا الكم من الحكايات حول هذا الموضوع، في رواية واحدة، يجعلنا نتساءل عن سبب إصرار "حسيني" على ذلك". هذا سؤال قويّ أشرعته المقالة على مصراعيه أمام القارئ عن هامش يبدو غير ممشيّ فيه في التعاطي اليومي للقضايا بين الناس.
بالفعل، قدمت الرواية سيلاً كبيراً من تجارب التخلي على مدار صفحاتها التي تتفتق بالوحشة والانفصال القسري ابتداءً بعنوانها "ورددت الجبال الصدى" في مشهدية عالية رافق انبعاث صوتها كل أجزاء الرواية، كان أعظم مواقفها حين روى سابور "وهو أحد شخصياتها" عن غول مفترس يهاجم قرى الفلاحين، ويختار ضحاياه عشوائياً، ثم يطلب من رب البيت تقديم واحد من أبنائه قبل قدوم الصباح، وإن لم يوافق يجهز على أولاده جميعاً ويقتلهم. تتجسد المأساوية لاحقاً في موافقة الأب على تقديم واحد من أطفاله للغول ككبش فداء يحمي من خلاله أطفاله الآخرين.
لم تتوقف فكرة نزع الغطاء عن تجارب التخلي عند حدود السرد القصصي المجرد لهذه الأحداث، بل تجاوزتها لتجعل من كل قصة مفتاحاً جديداً لهذه الأنسنة الملفتة للانتباه. قد يبدو من المجحف الادعاء هنا، أن في سرد هذه التجارب، وإضفاء التفاصيل النفسية اللازمة لمراجعة هذه المواقف دعوة لالتزام التخلي كحالة إنسانية لازمة لكل الظروف، بقدر ما تحمل الرواية أداة كاشفة جديدة تطل على التجارب الإنسانية ببصيرة مختلفة وبوعي جديد.
قد يبدو من المهم القول أيضاً، إن الرواية الحديثة وخصوصاً الغربية منها، وخالد حسيني الأفغاني الذي يعيش في أمريكا، واحد من روادها، قد "تخلت" بشكل من الأشكال عن علاج القضايا الكبرى روائياً بالشعارات الطنانة الصارخة، باستبدال أراه محموداً بالطرق على التفاصيل الإنسانية الصغيرة، طرقاً هامساً وهادئاً وصبوراً على كل العوالق الذهنية، لأغراض تفتيتها، ما من شأنه في محصلة الأمر أن يذهب بعيداً بالقارئ في رحلة الاكتشاف الضرورية للذات بمعزل عن ثنائيات التسطيح الشهيرة. طرق من شأنه أيضاً أن يخفف من عبء أثقال الضمير الجمعي بالذنب والتعذيب الذاتي بفعل استحواذ شعور التقصير تجاه القضايا السياسية المعلّقة، القدس وفلسطين والعراق على سبيل المثال، لأغراض التقدم فيها أماماً بدلاً من الانكفاء في مراجعات وحسابات لا تغني ولا تسمن من جوع. تقدم لا يحدث بالضرورة دون انسلاخ من جلد منهجية التفكير القديمة المجربة أصلاً.
هل هذا ما حاول "خالد حسيني" إحداثه فعلاً من خلال روايته "ورددت الجبال الصدى"؟ لا أعلم، لكن فكرة الالتقاطة الذكية لكاتب مقال المراجعة للرواية "ربيع محمود" عن أنسنة التخلي هي فكرة متقدمة وذات لماعية عالية من المهم والحيوي أيضاً سحبها إلى آخر حدود الاستطاعة، في إطار تقديمها كجزء من مشروع ذهني يستهدف العقل العربي الجمعي بشكله الأعم، لا يتوقف عند إضفاء الشرعية على أنسنة التخلي كمفهوم حديث وطازج، بل يتجاوزها في عملية تشريح علاجية متواصلة وشاملة لكل مكونات هذا الذهن العصي على التغيير والتجديد، ولا تعود أدراجها خائبة بالضرورة في مسابقة تبدو محفوفة بالمخاطر من كل جوانبها، كيف لا، والماضي لايزال نموذجنا المثالي الثابت الذي نطمح من خلاله لعبور المستقبل؟ ربما!