عندما أمر في شارع ما وأقرأ اسم محل تجاري لا ينسجم بمعناه مع طبيعة تخصصه ، أشعر بما شعرت به قبل سنوات من الاستغراب وأنا أشاهد برنامجاً على إحدى الفضائيات وهي تتحدثعن أثر السياسة على حياة الناس ، حينما أظهرت الفضائية صور محال تجارية وخدمية تحمل أسماء بعض السياسيين ، ومنها صورة محل بسيط في إحدى دول المغرب العربي ، وأظنها موريتانيا ، وقد كُتب على بابه ( بقالة صدام حسين ) ، كما أظهرت الفضائية في مكان آخر غرفة متواضعة أيضاً وقد كُتب على بابها ( كراج حسن نصر الله ) !
وقد ظننت حينذاك أن إطلاق الأسماء على ما لا يُناسبها من المسميات أمر يختصّ به السُّذج من العامة حتى استرعى انتباهي أثناء متابعة ما يصدر من الكتب أن بين الكُتاب والأدباء والمثقفين من يدخل في مجال التسميات حد الغرابة ، ومنهم من يتردّى في حُفرها المهلكةوذلك باختيار عناوين غريبة لمؤلفاتهم!
وتتمثل الغرابة في عَنونة المؤلفات في أوجُه عديدة أهمها : الطول والطرافة والتنفير ، وليس دائماً يكون مبعث الغرابة في العنوان هو العفويةفي الاختيار، بل قد يكون مبعثها هو المعرفة والدراية كما يحصل في الكثير من الأحيان ، حيث يعتقد الكاتب ـ وأحياناً يكون محقاً ـ أن غرابة العنوان هي الطعم الذي يستقطب من خلاله إلى كتابه أنظار القراء!
وتحضرني الآن بعض الأمثلة على أوجه الغرابة في عنونة المؤلفات ، ولعل أسطع مثال على طول العناوين هو عنوان كتاب ابن خلدون : " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" .
وهنا يمكنك أن تتصور نفسك وأنت تسأل أمين مكتبة أو تاجر كتب عن هذا الكتاب ! ومن هنا تتولد الضرورة في البحث عن الاختصار. أما الطرافة ، فثمة من الأمثلة عليها الكثير ، ويكفي أن أسوق هنا عناوين بعض الكتب التي كانت مثار استغراب من رواد (معرض الشارقة للكتاب) في العام ألفين وخمسة عشر ، ومن هذه العناوين: " كيف تَحلب النملة ؟ " وموضوع الكتاب هو كيفية جمع المال وإدارته ، ولا أدري إذا كان البخل ضمن إرشادات الكتاب كما يوحي العنوان ! ومن العناوين التي وُصفت بالطرافة أيضاً : " كيف تُعلم ابنك الحمار بدون تكرار؟ " ومع أنني لم أقرأ الكتاب إلا أنني أعتقد ـ
كما يوحي العنوان ـ أنه يتعلق بالتعليم والتربية ، ولا أعرف أي النظريات التربوية هي التي أجازت لمؤلف الكتاب أن يَصِفَ أو ( يَصِمَ ) الطالب ـ مهما كان ضعفه في التحصيل العلمي ـ بالصورة النمطية التي ترتسم للحمار في أذهاننا ، وهي الغباء ! وهذان العنوانان ، مع عناوين طريفة أخرى ، منها على سبيل المثال " بول البعير ينبع بين يديك " ، هي العناوين التي دفعت المنظمة الجزائرية لحماية المستهلك إلى أن تقول على صفحتها على ( فيسبوك) [بتاريخ 4 نوفمبر 2015] : إذا صح مثل هذا النوع من الكتب في معرض الجزائر الدولي للكتاب ، فإن من حق ( المُفرنسين ) أن يصفوا ( المُعرّبين ) بأبشع الأوصاف!وبالنسبة للوجه الثالث من وجوه العنونة الغريبة للمؤلفات ، وهو التنفير ، فعند التمثيل عليه يكفينا أن نسوق بالإضافة إلى بعض العناوين السابقة عنوانين أخرى ، ومنها : " نظفْ جيوب أنفك من القذارة " ـ أجلّكم الله ! ـوهو عنوان جدّ غريب ،ويا له من عنوان مثير للاشمئزاز ! ومنها أيضاً العنوان الصاخب : " ليتني عاهرة " وهو العنوان الذي منحته شاعرة لكتابها الذي يعتبر عصارة فكرها ، وهو في الأصل عنوان إحدى قصائد الديوان ، ومع أنني قرأت هذه القصيدة التي تتضمن أبعاداً اجتماعية وطبقية وأفكاراً سامية ، إلا أن ثقل عنوان كهذا على النفس كفيل بأن ينفر الناس من قراءة القصيدة ومن الكتاب معاً . ويمكنك هنا ـ أن تتصور بحسك الشرقي ـ موقفك للوهلة الأولى إذا صادفت ابنتك تدخل المنزل وهي تحمل عنواناً كهذا ! ولن يختلف الأمر كثيراً إذا كان حامل الكتاب أخوها . لا يقولنّ أحد أنني أتبنى موقفاً سطحياً أو جامداً في النظر إلى الأمور ، فالأمر ليس كذلك ، لأن العنوان بالنسبة للكتاب هو بمثابة المدخل للمنزل ،والمدخل هو الذي يشجع الإنسان على دخول المنزل للمرة الأولى أو ينفّره ، بغضّ النظر عن الذي يحتوي عليه المنزل في داخله من مظاهر الروعة والجمال!
إن العنوان ـ كما قلنا ـ هو مدخل الكتاب ، ومنه يؤخذ الانطباع الأول عن محتواه ، فإذا كان العنوان لافتاً جذاباً معبّراً سائغ اللفظ مختصراً فسيكون له دور كبير في تقريب الكتاب من نفس القارئ ، ومن ثم يُقبل القارئ على محتوى الكتاب بشوق وشغف ، والعناوين التي تتميز بهذه الصفات موجودة ، وليست مقتصرة على عصر من العصور ، ومثلها العناوين الغريبة أيضاً ، فكما كان في العصر القديم كتاب عنوانه ( نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب ) بما في هذا العنوان من الجمال ، يمكن لكل منا أن يسوق من الأمثلة الكثير على العناوين الجميلة في أيامنا بعد أن أحسن أصحابها الاختيار ، وكذلك الحال بالنسبة للعناوين الغريبة المستهجنة ، فمثلما تجد كتاباً من العصور القديمة يحمل عنوان (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) ، فإنك تجد على رفوف مكتباتنا في هذه الأيام كتاباً يحمل عنوان ( هل أنت حمار شغل ؟ ) وكتاباً آخر عنوانه ( طظ فيكم ) ـ أي طز فيكم ـ أعزّكم الله !
ومن تجربتي الخاصة ، أذكر ذات مساء من الماضي السحيق ، وأنا في مرحلة الدراسة الإعدادية ، أنني كنت أستعد لامتحان في مبحث التاريخ ، وكانت ضمن المقرر الدراسي بعض عناوين الكتب التي تم إنجازها في العصر العباسي ، فلفت نظري أثناء حفظ تلك العناوين أحدها، لا أدري ما الذي قرّبه من نفسي وحببه إليّ حتى كنت أشعر بالرغبة في تريد هذا العنوان، وبعد سنوات وقع الكتاب الذي يحمل هذا العنوان بين يدي ، فانكببت على قراءته بشغف، فأعجبت بمحتواه ، فأعدت قراءته غير مرة ، وفي كل مرة أزداد قرباً منه وشوقاً إليه حتى قررت أن يكون بيني وبينه شأن عظيم ، فاختصصته بنصيب وافر من العمر امتد على مدى أحد عشر عاماً من الجد والاجتهاد ، والعمل والأمل ، منحته خلالها وجهه الشعري الذي أعتز به ، ذلكم هو الكتاب الذي عنوانه ( كليلة ودمنة )!