الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مأزق السلام كما تنبأ به الراحل محمود درويش بقلم: عبد الصمد بن شريف

2017-10-12 06:56:54 PM
مأزق السلام كما تنبأ به الراحل محمود درويش
بقلم: عبد الصمد بن شريف
عبد الصمد بن شريف

ليس انبهارا ولا مدحا أن يتحدث المرء بلغة مغايرة  وصادقة عندما يتعلق الأمر بشاعر استثنائي عميق ومتجذر في تربة الإنساني والكوني والجمالي، كالشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، الذي حلت ذكرى رحيله في التاسع من شهر أغسطس الماضي، فهذا الجدار اللغوي، وهذه المنارة الجمالية، وهذا المزج الخلاق بين عدد من الأبعاد والعناصر المكونة لجدلية الذات والوطن يجسد كلية متراصة تحمينا من السقوط الرمزي ،وتذكي فينا جذوة البحث عن أفق خصب وممتد من الأسئلة التي لا تقف عند حدود المباشر والقريب والمعتاد ،بل هي من صنف الأسئلة التي تحدث بشغاف القلب وسراديب الذاكرة وتلابيب المخيلة، هزات وصدمات توقظ فينا كينونتنا وتدفعنا بقوة إلى اختيار الأمثل والانتصار للأفضل والانتماء للأجمل.

 

ذات مساء من سنة 1995 بالمدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط والتي كانت في الماضي قلعة لليساريين وبدعوة آنذاك من اتحاد كتاب المغرب قرأ الراحل محمود درويش قصائد انتخبها من دواوينه . كان الشاعر يتصبب شعرية وكانت مفرداته تتدفق كنهر أسطوري بخرير آسر ، فيما وجوه وعيون الحاضرين كانت تتصفد عرقا ونشوة وتعج عشقا، لأنها كانت أمام قامة شعرية تفرض عليك جلالها ومصداقيتها ، ليس فقط لآن هناك ذريعة التاريخ المأساوي وتراجيديا الوطن المصادر وتجربة المنفى القاسية ورهاب النكبة وتداعيات النكسة وإيقاع الحزن اليومي، بل لأن الشاعر نحت تجربة نوعية وفرض رؤية جديدة ولغة بديلة وأسس لإلقاء شعري يعرف كيف يتسلل إلى الأعماق.

 

أتذكر أنني حاورت محمود درويش قبل توجهه إلى المدرسة المحمدية ، وطرحت عليه سيلا من الأسئلة . استغرق اللقاء زهاء نصف ساعة، حاولت أن أكتشف فيه دفعة واحدة جوهره الشعري وتجربته الجمالية وحسه الإنساني ونباهته السياسية وحدسه الذي يعبر المسافات الطويلة ، ليقتنص حكمة أو صورة نادرة .

 

كان جواد السلام وقتها يبحث عن فارس من نوع آخر ،لأن كل ممكنات التفاعل الايجابي مع حق الآخر-الفلسطيني  في العيش فوق وطن أمن وواعد انتفت  وتلاشت ، بسبب عجز الوعي الإسرائيلي عن إحداث قطيعة بين تاريخ مزيف محشو بالتضليل ومعمد بالإرهاب الشامل والمنظم، وبين مرحلة تستدعي تنظيفا وتحريرا لهذا الوعي، وتطهيرا للمخيلات من أدران أساطير وأوهام مدمرة، حتى تستطيع العقلية الإسرائيلية الانتصار لصالح تكثيف حضور لغة السلام ، ونشر قيم التعايش مع الفلسطيني والاعتراف له بحقوقه ، لقد استشرف محمود درويش وتنبأ بمأزق عملية السلام الصعب ، عندما رد على  سؤال طرحته عليه في نفس السياق قائلا "عقلية إسرائيل تدير السلام بعقلية احتلالية دون الاعتراف بأن العرب شركاء لهم ، ورابين يمارس على الأرض سياسة الليكود ، دون أن يعطي فوارق ملموسة على أن هناك نضجا في معسكر حزب العمل "إن المجتمع الاسرائيلي مازال غير مهيأ لقبول الآخر " هذا الكلام يعود إلى 1995 أيام كان إسحاق رابين رئيسا للوزراء ، وبين ذلك التاريخ ويومنا هذا مسافة زمنية غنية بالدلالات ، بيد أن الوقائع السياسية على الأرض لم يطرأ عليها تغيير ملموس وأساسي ، فحكومة اليمين اليوم في إسرائيل بزعامة بنيامين ناتنياهو تتمادى في الإنهاك النفسي للفلسطينيين بشكل يومي ، وطورت إستراتجية الحصار والتدمير والاستيطان، ونتيجة لذلك تكاثرت العقبات وتناسلت خيبات الأمل، وبلغ اليأس مداه في المجتمع الفلسطيني، خاصة في ظل انسداد الآفاق بسبب الغطرسة الإسرائيلية ومحدودية فعالية السلطة الفلسطينية وانقسام الصف الوطني جراء احتدام الصراع بين حركتي فتح وحماس ، والذي لم ينتج غير التشتت والتفكك والهشاشة والمعاناة التي وصلت إلى حد مؤلم في عدد من المناطق ، خاصة  قطاع غزة رغم ظهور مؤشرات انفراج وشيك يمكن أن يعيد الأمر إلى طبيعتها.

 

لم يكن محمود درويش بعيدا عن خط الصواب عندما وصف ما قام به الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالمجازفة التاريخية الكبرى، لتعذر تحقيق إجماع حول قرار السلام . ويرجع درويش سبب كل الهفوات والمناورات إلى نص اتفاق أوسلو المليء بالغموض الذي يخدم الأقوى.

 

في شهر سبتمبر 1998 زار الراحل محمود درويش المغرب مرة أخرى بدعوة من بيت الشعر ، وقتها كان جسد الشاعر يفرض عليك أن تتأمله طويلا ، أن تلمس الفارق بين ديوان" لماذا تركت الحصان وحيدا" وديوان" سرير الغريبة"  أو بين هذا الأخير وملحمة" مديح الظل العالي"  والفارق هنا وجودي ووظيفي، لآن الشاعر خرج وقتها من تجربة خطيرة بعد عملية جراحية حملته إلى متاهات أسئلة ميتافيزيقية ووجودية وغيرت رؤيته ربما بصورة جذرية إلى معنى الحياة ومعنى الوطن ومعنى المعنى. ورغم العياء الذي كان باديا على وجهه والتردد السري الذي كان يسكن قلبه وشرايينه ، فقد حدس ثانية مآل السلام وقال بالحرف: "إن ما يجري على أرض الواقع ليس سلاما والسلام لم يف بوعوده " إنه كان يدرك جيدا، أن السلام ليس مهمة سهلة وسط دغل من المناورات والحصارات والانتظارات العبثية .

 

إن المغزى الرئيسي من استحضار مفهوم الراحل محمود درويش لعملية السلام مع الإسرائيليين، هو الوقوف على حدوسات وتنبؤات الشاعر، وخبرته في رصد اتجاهات وتطورات الأحداث، والقدرة على تفكيك تداعياتها وقراءة تفاعلاتها ،علما أنه كان دائما يؤكد أنه ليس مراسلا حرفيا أو ميدانيا للقضية الفلسطينية، فقد اختار أن يطل على السياسة من شرفة الثقافة ليخدم الحياة الوطنية من خلال الحضور الشعري ، خاصة وأنه كان يرفض أن يكون فريسة بين فكي السياسي والشعري ، حتى ولو كان يؤمن بقوة أن خبز حياتنا معجون  بملح بالسياسة ، علما انه كان يعي جيدا أن من شروط العمل السياسي، أَنْ تكون براغماتيا، وأَنْ لا تكون مثالياً، وأَنْ تقبل الواقع المعطى كما هو، بينما العملية الشعرية تقترح واقعاً آخر، ومعطىً آخر، وتؤسس عالماً آخر." فأَنا أَجد نفسي أَكثر صعوبة، ولكن، أَكثر جدوى، وأكثر ضرورةً في العمل الشعري منه في العمل السياسي المباشر "على حد تعبيره. فقد ظلَّ حريصاً على تطوير مشروعه الشعري والجمالي ، لأَنَّ التدقيق في جمالية الشعر، كما كان يؤكد دائما، مسألة لا تقلُّ أَهميةً عن البحث عن شعر القضية.

 

  •  صحافي وكاتب مغربي