وقفت يافا على درب دير قرنطل في جبل التجربة نظرت حولها، كهوف، سحر المكان والتاريخ والدلالة، في بحثها عن معان للتجربة، التي تعني أكثر من حالة. أكثر من شيء، ومرارة وقسوة التجربة.
هنا رحلة العذاب للأم اللاجيوس اجتاحتها، وهي تنتظر ابنها في هذا اليوم الربيعي الجميل، كانت تستمع لمرشد سياحي يشرح عن جبل التجربة، وهي تتمتّع بالمنظر المطل على مدينة القمر، أريحا من أقدم مدن التاريخ، يبلغ عمرها سبعة آلالف عام، وآخرون يقولون إنها من العصر الحجري، تزيد عن عشرة آلاف عام، مدينة أدمتها الحروب في التاريخ، خانتها راحيل الزانية ليذبح أطفالها.
يا لجمال المدينة! نزلت عن قمة جبل التجربة مندفعة بحب جميل للمدينة الدافئة. خليط سكانها من ذوي البشرة السمراء والقمحيين والبيض، وفي قراءتها عن جنوب افريقيا والعنصرية، وجدت أنهم يحكون عن بلاد أخرى عالم آخر، ليس هنا.
ذلك المبتسم يبيع الموز والبرتقال، أسنانه البيضاء، تجادله النساء حول السعر العالي المرتبط بأنها مدينة سياحية. تعبت وهي تسير في شوارع المدينة وتشرب عصير الليمون الطازج بالنعناع ينعشها وتشعر بالسعادة، جلست في مقهى الليمونة، تنفث دخان النارجيلة في انتظار الفوّاض، عندما أطل برأسه مبتسما، تجاهلته كنوع من الدلال، إلا أنه قبل رأسها معتذرا على التأخير.
وقالت من حسن حظي أنك تأخّرت، لقد صعدت إلى جبل التجربة.
لم يفهم ما قالته: هز رأسه مستفسرًا.
أجابته: يا فهيم جبل التجربة.
ضحك وقال: آه كنت هناك.
نعم وجدت المعنى للتجربة وصعوبتها ووحشة المكان الغابرة.
ها نحن هنا على درب الأم اللاجيوس يا عزيزي، نبحث عن تفاصيل ضائعه في ثنايا الزمن ورحلة أمك أو التجربة، وجدتك التي هجرت إلى هنا، على درب الضياع المؤقت. أمسك يدها شاكرًا ومقدرًا، سحبتها كي لا يلاحظ رواد المطعم، وقالت لنذهب إلى مكان سكنها. أمسك يدها وسارا باتجاه المخيم والمزرعة التي عملت بها.
يتوقف عن الحديث، وتومئ إليه بعينيها كي يكمل. جرب أن يثير فضولها لكنه سرعان ما استسلم وتابع قائلا: سألتها الجدة عن زوجها.
أعلن زوج أختها عن استعداده للمساعدة وأنه بمعارفه المتنوعه لا بد من إجابة شافية، لم تعد الأم اللاجيوس تشتاق كما السابق ليكون الحامي والحارس والمسؤول عن تكاليف الحياة. لقد تجاوزت الخوف والجوع وها هي مناضلة، ولكنها تشتاق للزوج لمعتابته. فكرت في مقابلة أعدتها له بقوة شخصيتها، وأن تواجهه بالطرد عقابا له، وتغلق الباب في وجهه، لتعود بعد كسر شكيمته بالسماح له بالدخول ومعانقته.
كانت وساوس الأستاذ تخطر في بالها لكن سرعان ما تطردها، كيف وهو مسيحي كما تعلم، وربما متزوج وأن العلاقة الطاهرة هي العنوان، وزوجها لا تخونه.
ذهبت برفقة زوج أختها إلى بيت أعتى رجال الجبال، وهم بعض الرجال الذين لا يغادرون جبال قريتهم معظمهم لصوص، وقاطعو طرق وظيفتهم السلب، لكن العنوان أنهم يراقبون القرية والغزاة، مختلفون منهم من هو قاتل لا يرحم ومنهم من يشك بأنه جاسوس للغزاة، ومنهم من هو جيد وشجاع ومعطاء وخدوم. وهم «البوب والأزرق والمغربي» يقضون معظم وقتهم في القرية يبحثون عما نسيه الناس ليحضروه هكذا يدعون، ولكن يشك أن بعضهم جواسيس للغزاة يشون عن العائدين والمتسللين والفدائيين وينهبون أي شخص ضعيف. كانت متشجعه لمعرفة مصير زوجها. في اليوم التالي استيقظت وضمّت أمها إلى صدرها وبكت.
وقالت: لم زوجتيني صغيرة؟ لمَ لمْ تعلميني الكتابة والقراءة!
تعجبت الأم من هذه الأسئلة وأجابتها: إن هذا سبر بلادنا أي عادتنا التي تعوّدنا، لا تتعلم النساء سوى أعمال البيت والزراعة والماشية من حَلْب وخَض وصُنع أقراص اللبن الجميد وتجفيفها. جادلت أمها التي لم يعجبها الكلام.
ذهبت برفقة زوج أختها إلى بيت أعتى رجال الجبل «الأزرق» الذي لم يتفاجأ بالسؤال عن زوجها.
قال: لقد رأيته نعم قبل سنة يجمع الحطب ليوقد لنفسه من البرد، وأنه سيعود إلى البلدة الغورية.
ولم يذكر مدينتك، شكّت في كلامه وتناهشتها الظنون، هل وقع وأصيب بالنسيان. لا مستحيل فكم من مرة قال لها: أنا جدّدت شبابي بزواجي منك.
أصرّت على زوج أختها أن يذهبا إلى «البوب» وهو أشهر قاطع طريق وحرامي. يقضي وقته في الجبال ويعرف معظم الكهوف والأماكن الخفية، ويتجوّل في غابات الخروب الكثيفة كأنما يتجول في فضاء مفتوح.
أجابها البوب: نعم رآه منذ أيام في طريق الذهاب إلى القرية. وعليها أن تعود بعد أسبوعين، أو في طريقه سيأتي إليها في الخليل. خافت وأخبرته أنها تسكن الآن عند أمها. أدركت أنه كاذب، يتقاضى مالاً كي يجيب عن أسئلة الأهالي، أو يبحث عن مغانم أخرى. وعرفت أن عددا لا بأس به من العائدين مفقودون كزوجها. أخيرا ذهبت إلى المغربي وهو أشرفهم، كان يحارب ضد الغزاة ويعرف عنه شهامته وشجاعته.
أخبرها أنه لم يره، وأنه سمع عن قدومه إلى القرية مع مجموعة قتل منهم شخصان من القرى المجاورة، وأن زوجها لم يقتل في تلك الحادثة. لأن بعض رجاله أخبروه عن رؤيته مع مجموعه تفتش في القرية عن بقايا أثاث ومؤونه قبل حوالي أكثر من سنتين. عادت بعدها قوات المحتلين إلى القرية لأنهم معتادون على مداهمات كي لا يعود السكان الأصليون، وبعد انصرافهم قال لقد نزلنا إلى القرية وجدنا آثار دماء ولم نجد جثثا.
قد يكون جُرح على الأغلب وأخذوه معهم، لأن القتيل يتركوه في المكان، كما ويعرفون أن بعض الأهالي سيعودون ويدفنونه. وسمع لاحقا أنه في سجون الغزاة. ووعدها أن يسأل عنه.
لأول مرة تشعر أنها منذ 3 أعوام تصل إلى خبر شبه يقين، يشير إلى أن زوجها ربما هو حيّ وفي سجون الغزاة. وما زالت تثق بالصليب الأحمر الدولي وتراجعه.