باندورا
أرادَها "زِيوس" أن تكون لعنة الماء؛ ليطفئَ نار "بروميثيوس".
يقول "زُهير":
- هي أولُ النساء وأول الماء والتراب.. هي أبعد من النار وأقرب إلى الهواء.
قالت:
_ حذارِ من صندوقي الممتلئ بشرور الآلهة.. أنا حمالةُ الحطب في جيدي حبلٌ من أمل.. أنفثُ بمائي ألسنة اللهب وأنفخُ الروح فيكَ ان شاءَ زيوس ووهب.
ولما شاءَ لها ووهَب.. صارَ زُهير رسول الأمل.. ساحَ في الأرض يَهذي.. يَلّعَقُ ماء "باندورا" ويُرتل آيات آلهة الحب والجمال كلما أَوحَت إليه "أفروديت".
حب من أول موجة
زُهير يَكتبُ على رمل الشاطئ.. يَتأمل زُرقة الماء قبل الشفق.. من الأصيل يُحيك خيوطاً لمُعلّقتهِ الحولية.. تُرى ماذا تُوشوش النجمة الهِلال؟
قبل أن يرتفع صوتُها فوق الشفق لَمعَ في عينه وميض يُشبه الملائكة في مواسم الرُسّل.. استدارَ بعد رحيل الشمس.. أَمسكَ بكتفه حمرتها المُشتعلة من شبق.. تَناهى إليه صوت النجمة.. نجمة انبلجت من الهلال فلقة قمر تُحاور ابن الطين:
- أنتَ زهير.
- كيف عرفتِ؟!
- أَخبرَني زيوس بأنكَ حول شاذرواني تَطوف.. بَعثَني من وراء هذا الماء علّني قصيدة تُعلّقها على جدران كَعبتكِ.. ووشم يُنقَش علي شغاف قلبكِ في رحلة الروح ومسرى الدماء.
- إذن أنتِ باندورا.
- كيف عرَفت؟! وأنتَ لست بإله.
- ألم يقل لكِ زيوس بأنني درويش؟
- درويش؟!
- أجلّ.. هكذا كانت جَدتي تقول عني وأنا صغير.
- إذن أنتَ تضرب في الرمل يا زهير.
- بل أَكتبُ على الرمل من وحيّ الماء.
طارَت مع الشفق وظلّ زهير دون أن يُوحى إليه عنواناً للقصيدة..
وظلّ صَدى صوتها يَتردد بين السماء والطارق:
- أنا باندورا يا زهير..
- احفظ اسمي جيداً..
- سأعود.. سأعود.
أول الخريف غيمة
كُتب على زهير في صندوق باندورا أن يظل يَتهجد في محرابها.. ينتظر في الغار وحيَها من بين الماء.. مرّت الغيمة الأولى تَحمل في ذيلها موجة.. أَطلَت عليه برأسها.. رَمقتهُ بحبة مطر.. مسحَ وجههُ وأغمضَ عينيه.. مضَت سريعاً قبل أن يَفتح عيناه على مطرٍ يَهمي ويمحو قصيدتهُ الرملية.
تمتم زهير:
- يا لعجب شرور صندوق باندورا.. جَرَفَ قصيدتي.. باعدَ بيني وبين "أُم أَوفى" على أمل أن أُكملها وأَقرأها عليها قبل أن تَمحوها موجة الشاطئ.
التفتَ زهير لوشوشةٍ دافئة سَرَت في أُذنه واشتعلت عند حدود القلب:
- عُد إلى هنا.. لا تَغيب.
همسَ:
- هنا أنا حتى تعودين.
تَختفي باندورا مع الغيمة تاركة قَهقَهاتها الساخرة تملأ الرحب.. وموجة بَلّلَت ذيل زهير وغَرقَت فيها حروف القصيدة.
في ذيل غيمة راحلة
بين الأصيل والهلال شفقٌ تبدد ونجمةٌ ظلت تُمسك بزهير.. تَشدهُ إلى ذلك الأفق الذي يَفصل السماء عن آخر البحر.. مداهُ مرمى البصر؛ لعلّ باندورا تَنبلج من خلف هذا المدى.. وبينما أَرخى الليل بسكونه لَمعَ في عينه بريق ظنَ بأن بانادورا قد انبعثت إليه ثانية.. اقتربَ منه الضوء أكثر فأكثر حتى وصل الشاطئ.. فإذا به قارب لصياد أنهكتهُ رحلة الصيد الطويلة.. قَفَزَ من مركبته الصغيرة وأَخذَ يَجرُ بصندوق خشبيّ إلى رمل الشاطئ.. ذُهل زهير حينما ناداه الصياد باسمه طالباً مساعدته.. سألَ الصياد بعد أن تملكته الدهشة:
- كيف عرفتَ اسمي يا هذا؟
- هي من قالت لي اسمك.
- ومن تكون هذه.
- صاحبة الصندوق يا زهير.
- أتقصد باندورا.
- هي بعينها وهذا صندوقها.
- وأين هي؟
- لا أدري.. كل ما أعرفه بأنها طلبت مني أن أُحضر لكَ هذا الصندوق وقالت لي:
- انتبه لا تفتحهُ ففيه من الشرور عجب العجب.
مضى زهير بالصندوق.. ساحَ في دنياه يُفرغ ما فيه من شرور وعجب؛ لعلّها تعود إلى ذات الشاطئ.. فتصيح صيحةً تلملم الشرور المتناثرة من البر وتعود بها إلى البحر ثم تأخذهُ إلى حيث جزيرة العجب؛ فينظم فيها زهير قصيدتهُ الحولية.. يَعتلي عَرش الآلهة أو يُرسَل نبياً تُوحى إليه باندورا وتَنفخُ فيه روح الهواء والماء.. ظلّ زهير يَتهجد في غار باندورا دون أن يهبط وحيها عليه.
كابوس
استيقظتُ على صوت صياح الديكة وأنا أَهذي:
- أين أنتِ يا باندورا؟
- أنا زهير.. أفرغتُ صندوق العجب.
هَزَتني زوجتي:
- ما بكَ يا رجل؟
- من باندورا
- من زهير؟
- وما هذا صندوق العجب؟
- أنتَ تحلم إذن.
- نعم أَحلم.. يبدو أن "كافكا" أَخذَني بكوابيسه إلى العصر الجاهلي.. بل وإلى ما قبله من عصور الأساطير البعيدة.