الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

" دونالد ترامب.. القضايا العادلة والقضايا الخاسرة.. تشاؤم الذَّكاء وتفاؤل الإرادة "/ بقلم: رائد دحبور

2017-10-24 10:24:01 AM
رائد دحبور

 

فيما كنتُ أهمُّ بكتابة مقالي الأسبوعي لصحيفة "الحدث" في الزَّاوية المخصصة لي بعنوان "رؤىً في الفكرِ والسِّياسة" مساء يوم الأحد 22/10/2017 تواردت أنباءٌ أوَّليَّة من واشنطن عن أنَّه تمّ الكشف مبدئيًّا عن خطَّة يجهزها الرَّئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لحلّ الصِّراع لا يطلب فيها موافقة إسرائيل، حيث تأتي ضمن ترتيبٍ إقليميٍّ، وليست صفقة بين إسرائيل والفلسطينيين فحسب؛ فخطرَ لي لحظتها أنْ أكتب تحت عنوان: "في القضايا العادلة والخاسرة.. تشاؤم الذَّكاء وتفاؤل الإرادة".

 

وخطرَ لي أنَّ القضايا المهمَّة والعامَّة تتحدَّد بكونها خاسرة عندما يتمُّ إطلاق الأحكام النِّهائيَّة تجاهها – من قبل قوىً مهيمنة أو هيئات قضائيَّة أو من قبلِ مجموعاتٍ قانونيَّة أو نُخب فكريَّة وفقهيَّة وفلسفيَّة ذات تأثيرٍ ونفوذٍ فعليٍّ أو معياريٍّ طاغٍ.

 

وخطرَ لي كذلك ما أدلى به ذات مرَّة، وتحديدًا بُعيْد فشل مؤتمر كامب ديفد في تمُّوز عام 2000، مارتن إنديك ممثل الإدارة الأمريكيَّة في الأمم المتَّحدة وسفيرها السَّابق في إسرائيل، حيث قال:

 

إنَّ ما كان يهمُّنا من ياسر عرفات فقط، هو توقيعه على إنهاءِ الصِّراع، وكان ذلك تصريحًا ضمنيًّا أمريكيًّا بانتهاء دور ياسر عرفات سياسيًّا، وهذا ما كان عبَّر عنه بعد وقت قصير من ذلك، وبشكلٍ فجٍّ، كثيرٌ من أركان الطَّبقة السياسية الإسرائيليَّة وعلى رأسهم كلٌّ من شاؤول موفاز وبن يامين بن إليعيزر على سبيل المثال.

 

 كما خطرَ لي تعقيبٌ لوزير الخارجيَّة الأمريكيَّة الأسبق الألمعي، هنري كيسنجر في أحد مؤلَّفاته البارزة على ما جرى في مؤتمر كامب ديفد؛ حيث عدّ أنَّ أكبر أخطاء إدارة بل كلينتون تجاه مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كانت محاولتها البحث عن حلٍّ نهائيٍّ للصِّراع عبر مؤتمر كامب ديفد؛ لأنَّ هذا الصِّراع من وجهة نظر كيسنجر له بعدان، بعدٌ دبلوماسيٌّ وبعدٌ يتعلَّق بالادِّعاءَات التَّاريخيَّة والدِّينيَّة في مكانٍ واحدٍ لكلا طرفيِّ النِّزاع، وهذا الصِّنف من النِّزاعات لا ينبغي محاولة إطلاق أحكام نهائيَّة أو اجتراح حلول نهائيَّة لشقِّه المتَّصل بالادِّعاءَات التاريخيَّة والدِّينيَّة، بل ينبغي تجنُّب ذلك لأنَّ محاولة فرض حلول من هذا النَّوع سيؤدِّي إلى انفجار دوراتٍ من العنف يصعب السيطرة عليها، ويستشهد على ذلك بما حصل بعد فشل مؤتمر كامب ديفد من انتفاضة فلسطينيَّة وردود أفعال إسرائيليَّة قاسية، بل ينبغي وبحسب كيسنجر أن يتم التَّركيز في محادثات السلام على الجانب الدُّبلوماسي المتصل بإبقاء مجريات الصِّراع وسيروراته تحت السيطرة، بمعنى استمرار إدارة الأزمة، دون محاولة فرض حلول والوصول إلى أحكام نهائيَّة.

 

أعتقد -ولو بشكل مبكِّر- أنَّ وجهة نظر هنري كيسنجر هي سياق ما سيثوبُ إليه سلوك الإدارة الأمريكيَّة الحاليَّة في نهاية المطاف. ولنعُدْ إلى السياق العام المتِّصل بعنوان المقال حول القضايا العادلة والقضايا الخاسرة وتشاؤم الذِّكاء وتفاؤل الإرادة؛ فتشاؤم الذِّكاء –بمعنى التَّشاؤم الَّذي طالما فرضته حقائق القوَّة الطَّاغية لصالح إسرائيل بتحالفها مع القوَّة الأمريكيَّة على سياقات الوعي والسُّلوك والإرادة العربيَّة والفلسطينيَّة– وقد كان هذا التَّشاؤم والإحباط أحد مصادر قوَّة تأثير الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة وتفرُّدها في مجريات وسيرورات دبلوماسيَّة اجتراح المعجزات النَّظريَّة غير القابلة للتطبيق واقعيًّا لجهة إيجاد الحلول العادلة الملائمة لهذا الصِّراع المزمن.

 

قد يبدو ما يمكن أنْ نقوله في القضايا العادلة، التي تتخذ صفة القضايا المهمَّة العامَّة كبقاءِ أمَّة أو الكفاح من أجل الاستقلال الوطني على سبيل المثال وبطبيعة الحال، بالغ الاختزال في معظم الأحيان، لكن من الضَّروري أنْ يكون شديد الدِّقة والانضباط بعيدًا عن الاجتزاء، ومن الضَّروري أنْ يستند إلى قوَّة المنطق وإحْكامِ السَّردِ ودقَّتِه وهادفيَّتِه وذكاء وفاعليَّة استخدامه في سياق تفسير الحقائق والوقائع اعتمادًا على إذكاء الذَّاكرة التَّاريخيَّة باستخدام عبقريَّة التَّاريخ والجغرافيا في آنٍ معًا واللَّواتي تشكِّل مُجتمعةً عبقريَّة المكان عندما يكون هو موضوع القضية؛ فكثيرًا من القضايا العادلة تخسرُ؛ لأنَّها تخسر معركة السَّرد أمام قوَّة السَّرد الَّتي يتسِمُ بها منطق القوة الطَّاغية في تسويغ وإثبات أحقيَّة الوقائع المُستَحْدَثة.

 

بحسب (إيريك أورباخ 1892-1957) النَّاقد الأدبي والمفكر الألماني: "فإنَّ التاريخ هو علم الواقع الذي يؤثر فينا على نحوٍ مباشر، ويحفزنا بعمق ويدفعنا بقوة إلى وعي أنفسنا. إنَّه العلم الوحيد الذي تخطو فيه الكائنات البشريَّة بكليَّتها، وعلى المرءِ تحت عنوان التاريخ أنْ يفهم ليس الماضي فحسب، بل تعاقب الأحداث بوجهٍ عام؛ ولذا فإنَّ التاريخ يشتمل على الحاضر. والتَّاريخ الجُوَّاني للألف سنة الأخيرة هو تاريخ الجنس البشري في تحقيقه التَّعبير عن ذاته، وهذا ما يعالجه فقه اللغة الذي هو فرع تاريخاني"، بامتياز، ومن هنا تكمن أهميَّة السِّرد التَّاريخي، والمحافظة على مكتسبات معركة السَّرد، في إثبات الارتباط بالمكان، وفي إثبات الهويَّات التَّاريخيَّة للأمم والأمكنة.

 

وبحسب الفيلسوف والمفكر والناضل السياسي الإيطالي (أنطونيو غرامشي 1891-1937): فإنَّ أهم العوامل المتصلة بتحديد الأحكام تجاه القضايا العادلة هو: "من الذي يطلق الحكم، المؤمن أم أحد ما يقف خارج القضية، كأن يكون خصمًا نشطًا، أو مؤرخًا مختصًّا، أو فيلسوفًا أو عالم اجتماع، أو مراقبًا غير مكترث؟  ففي عالم القضايا السياسية ثمة إستراتيجية نفسانية شائعة يحاول فيها الخصوم تقويض الثقة بالقضية التي تقف نقيضًا لهم؛ وهكذا تنشب معركة إرادات يحاول فيها أحد الطرفين أن يراكم إنجازًا بعد آخر أو واقعةً فعليةً بعد أخرى؛ على أمل إحباط من يقفون في الطرف الآخر، موضحًا لهم أنّ لا أمل لديهم بالفوز. في مثل هذا الوضع يكون من الواجب كسب القلوب والعقول وإلا فالخسارة. والحال أنَّ نظرية أنطونيو غرامشي السياسية في الصراع على الهيمنة تُبَوِّئ مثل هذا النزاع مكانة مركزية في السياسات الحديثة وتفسر الشعار المأخوذ من رومان رولان الذي وضعه غرامشي على صدر صحيفته (تشاؤم الذكاء.. تفاؤل الإرادة)، ومن ثَمَّ فإنه ليس مهمًّا مقدار المشاكل والمصاعب التي ينطوي عليها وضعٌ ما، إذ يبقي للشخص الذي يمثل هذا الوضع قضيته أن  يتخذ القرار الأخير، أن يحتفظ في المبادرة، وأن يتمسك بالتفوق أو الامتياز. فالبدايات، الخواتيم والفترات المتوسطة: تلك هي المراحل أو الحدود السردية التي تطلق عندها أحكام النصر، والنجاح، والفشل، والخسارة النهائية، وفقدان الأمل".

 

تقفُ إذًا سياقات التَّاريخ الصحيح والجغرافيا الواقعيَّة وسرديَّاتهما العبقريَّة لصالح أصحاب القضايا العادلة على الدَّوام، وهذا هو مناط ومنطلق تفاؤل الإرادة الذي يتسم به أصحاب القضايا العادلة اعتمادًا على الإيمان بعدالة قضيتهم، في المقابل تقفُ الوقائع المستحدثة التي تفرضها القوى الطَّاغية لصالح غَلَبَةِ الادِّعاءات التَّاريخيَّة الزَّائفة بالمكان وراء منطق تشاؤم الذّكاء في التَّعامل مع ومواجهة حقائق القوَّة التي تشكِّل معاول هدم منهجيَّة لأركان الإيمان بإمكانية انتصار القضايا العادلة لدى أصحاب تلك القضايا قبل غيرهم من المراقبين أو المحايدين. وهذا الوجدان والمنهج السيكولوجي والسلوكي من تشاؤم الوعي والذَّكاء الانفعالي يُشَكِّلان معولاً ذاتيًّا –قبل موضوعي– لتفكيكٍ ذاتيٍّ تلقائيٍّ لسلسلَةٍ متصلة من النُّصوص الواقعيَّة التَّاريخ – أصلانيَّة المتصلة بالصراع وادِّعاءَات الأطراف؛ وهو ما يعني الاستعداد التلقائي والقابليَّة التي يُسوِّغها تشاؤم الذَّكاء الانفعالي لخسارة معركة السِّرد، والتَّخلِّي النِّهائي عمَّا يتجلَّى في عبقريَّة التَّاريخ والجغرافيا لصالح حقائق الجغرافيا والدِّيمغرافيا المُستحدثة، وما تفرضه حقائق القوَّة من وقائع طاغية في المكان والزَّمان؛ وهذه كانت على الدِّوام سياقات ومؤدَّيات التَّعاطي المنهجي مع ديناميَّة وغائيَّة الدُّبلوماسيَّة الأمريكيَّة، منذ مشروع روجرز في أواسط ستينيَّات القرن الماضي مرورًا بمكُّوكيَّة هنري كيسنجر وسايروس فانس وجيمس بيكر وجون كيري، وليس انتهاءً بما يمكن أنْ نراه من ديناميَّة ومكُّوكيَّةِ وزير الخارجية الحالي الواعدة أريكس تيليرسون !!.