في الأسابيع القادمة ستتولى (جاسيندا آرديرن) ذات السبعة وثلاثين عامًا مقاليد الحكم في نيوزيلاند، بينما سيتولى الشاب (سيباستيان كورز) ذو الواحد والثلاثين عامًا رئاسة الحكومة في النمسا ليصبح أصغر زعيم منتخب في العالم. (آرديرن) ينتمي إلى حزب العمال اليساري، بينما (كورز) ينتمي إلى اليمين وتحت قيادته، هناك مخاوف من جنوح حزبه وبلاده إلى التطرف اليميني والإسلاموفوبيا.
القواسم المشتركة بين الزعيمين هي أنَّ غالبية السكان في بلديهما من الشباب، وأنهما استفادا من منظومتي تعليم تسلّح الطالب بالقدرة على التعبير عن نفسه والتحليل والوصول إلى استنتاجاته الخاصة دون تلقين أو ترهيب أو الاضطرار للانصياع لقوالب مجهزة مسبقًا لدور الشباب. بالإضافة إلى ما سبق، يجب القول: إنّ الزعيمين الشابين استطاعا أن يصلا إلى سدّة الحكم بسرعة قياسية بكلّ المعايير بسبب جاهزية مجتمعيهما لاحترام العقول والتركيز على البرنامج السياسي وعدم اعتبار الشباب غير مؤهلٍ للقيادة. الأهم من ذلك كلِّه هو أنَّ هذه المجتمعات لا تعدّ منح الشباب دورًا قياديًّا أمرًا بروتوكوليًّا أو شكليًّا أو منة من الكبار.
في فلسطين، غالبية المجتمع من الشباب الذي لم يحظَ غالبيته بالمشاركة في أيِّ انتخابات بسبب الانقسام. في ظلّ أجواء المصالحة، هناك فرصة لعقد انتخابات طال انتظارها للرئاسة والمجلس التشريعي، وربما أيضًا انتخابات للمجلس الوطني لمنظمة التحرير. لكن الطريق أمام بروز قيادات شابة في أيِّ انتخابات مقبلة معبدة بالمعيقات والافتراضات غير السليمة.
الشباب في فلسطين لا يحظى ببيئة حاضنة تشجع الإبداع والفكر الحر والتنوع. نظام التعليم لا يعتمد التحليل لأنه يرتكز على التلقين والقوالب الجاهزة والمتحجرة لتعريف الذات، بل ويركّز على التماثل عوضًا عن التميّز والتعدد. أما الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، فتكتظ بمن قاربوا على سنِّ التقاعد ولا يزالون يبحثون على فرصة لتبوُّءِ منصبٍ قيادي؛ ما يجعل فرص صعود قيادات شابة إلى درجات عليا في التنظيم محدودة للغاية.
في المقابل، وبسبب هذا الأفق الاجتماعي والسياسي المسدود أمام غالبية المجتمع، فقدَ معظم الشباب إيمانهم بالنظام السياسي وقدرته على التكيّف مع مستجدات العصر أو استعداد هذا النظام ليصبح أشبه بالمعنيين فيه بدل أن يكون معدًّا لتلقين الأغلبية، واعتبارهم غير مستعدين لتولي مسؤولية صنع القرار. عزوف الشباب عن الحياة السياسية وانقسامهم بين ناقم على النظام وغير مكترث بمنظومة يعدُّها غير ذات صلة بحياته واقعًا لا جدال فيه. والأخطر ربما هو أنَّ الشباب في فلسطين محرومون من القدرة على تهيئة أنفسهم بما يلزم من معرفة ومهارات لكسب القدرة الفعلية على إحداث التغيير.
هذا الأفق المسدود أمام الشباب يعني بالضرورة فقدان الهيئات والتنظيمات لصلتها بالواقع والرأي العام وانعدام قدرتها على التأثير على الشريحة الأكبر في المجتمع. الأزمة ماثلة أمامنا في كلِّ مناحي الحياة، وأثرها يتخطى الحاضر، بل إنه يهيِّئ لأزمة أعمق في المستقبل القريب، عندما تفرض الطبيعة وسنة الحياة فراغات في كل هيئات صنع القرار دون وجود من هو مُهيَّأ لتولي تلك المسؤوليات. هذا السيناريو ليس افتراضيًّا، بل هو ماثل أمامنا بالصوت والصورة وبشكل يومي لدرجة أننا تعودنا على عدم تقييمه أو دراسة انعكاسه الحقيقي على حاضرنا ومستقبلنا القريب.
قبل أسبوع، دعت القوى الوطنية والإسلامية في رام الله إلى "تظاهرة جماهيرية" للاحتجاج على احتفال بريطانيا بوعد بلفور ومطالبتها بتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يعاني تبعات هذا الوعد من ظلم وتشريد وحرمان لأبسط الحقوق الإنسانية والوطنية. الصورة التي خرجت عن هذه "التظاهرة" تلخص الواقع والانفصام، حيث لم يتجاوز عدد المشاركين بضع عشرات من الشخصيات التي يتكرر وجودها في كلِّ المناسبات والتظاهرات المماثلة، وغاب عن المشهد أيّ مشاركة لمن تتراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين على أقل تقدير، واقتصر تمثيل هذه الفئة العمرية الكبيرة على الحضور من الصحافيين! هذا الغياب ليس حدثًا استثنائيًّا، بل هو القاعدة التي لم تدفع هذه القوى حتى الآن إلى مواجهة حقيقة دورها وحجمها وقدرتها على التأثير وتمثيلها للرأي العام.
الأمر ذاته موجود في فعاليات الأطر النسوية والمجتمع المدني، حيث تتم دعوة الشباب للاستماع، وليس للمشاركة. في المقابل، يبادر الشباب بإطلاق حملات وشنّ معارك حقوقية واجتماعية تعنيه وتؤثر على حياته، مثل حملة حماية تل السكن في قطاع غزة مؤخرًا على سبيل المثال لا الحصر، وتلحق به الأحزاب وفعاليات المجتمع المدني حتى تبقى ذات صلة.
في ظلِّ عالم يعاني من أزمات مترابطة ومتفاقمة، وفي ظلِّ واقع يختزل المسافات، ويسمح بالعمل الجماعي على مستوى العالم، فلسطين حبيسة شعارات أثبتت عدم جديتها فيما يخصّ دور الشباب وحقهم في تقرير مصيرهم. المجتمعات في الدول الديمقراطية والمستقرة تعاني من أزمة قيادة وجنوح إلى الجموح باتجاه اليمين أو اليسار. هذه المجتمعات، ورغم ما تواجهه من هزات وأزمات تستطيع الدفاع عن نفسها بسبب وجود مؤسسات عريقة للدولة والمجتمع يضمن عدم انهيار النظام السياسي بسبب أيّ أزمة. في واقعنا، وفي ظل تعطل الحياة الديمقراطية وانسداد الأفق أمام الشباب الذي لم يراكم الخبرة، لكنه يراكم الخيبات والنقمة بسبب الإقصاء وانعدام فرص العمل والمشاركة السياسية، لا يوجد ما يحمي المجتمع مما هو آت سوى وقفة جدية لإنقاذ الذات. إما أن ننتقل من الحديث عن الشباب لتمكينهم وخلق واقع تتجدد فيه الدماء وتُكافأ فيه المبادرة، أو أن نقبل بما لا تحمد عقباه في المستقبل القريب من الفراغ الذي لا تقبله الطبيعة. عقلية "بدري عليك" تجاوزتها الديمغرافيا وتخطاها الواقع. بقي أن يتدارك المجتمع الأمر، ويتبنى نهج "هلا وقتك".