ليس من باب التكرار القول: إنّ في الاتحاد قوة، وإنّ الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني وتجنب العثرات والسقوط في الأفخاخ التي ينصبها المحتل الإسرائيلي على طريق حريتنا وانعتاقنا من الاحتلال.
وقد حرصت القيادة الفلسطينية منذ أن انشئت منظمة التحرير قبل أكثر من نصف قرن أن تكون المنظمة هي الوعاء الجامع للشعب الفلسطيني بكلّ قواه وأطيافه الفاعلة من شخصيات وطنية ومنظمات وحركات وجبهات فدائية وأحزاب سياسية واتحادات شعبية.
وقد حافظت المنظمة على وحدة مكوناتها خلال مسيرتها؛ فحققت بالوحدة انتصارات واضحة يقف على رأسها تأكيد الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني التي غابت بعد النكبة وحقه الثابت في التحرر والاستقلال والعيش في دولة خاصة به أسوة بغيره من شعوب المنطقة والعالم.
وخلال مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، تعرضت الوحدة الوطنية إلى اهتزازات بفعل اختلاف الرؤى والبرامج، ولكن سرعان ما كان يتم تجاوز هذه الاختلافات والعودة إلى الانتظام في الإطار الجامع منظمة التحرير ومؤسستها الأبرز اللجنة التنفيذية للمنظمة. ولم تكن التدخلات العربية في الشأن الفلسطيني بعيدة عن خلق الاهتزازات في الصف الفلسطيني والوحدة الوطنية، ولكنها كانت تدخلات فجة ومكشوفة سرعان ما تتلاشى أمام وعي الشعب الفلسطيني وإدراكه لخطورة الانقسام والتشرذم على القضية الوطنية.
ومن هنا، برز وتعزز شعار استقلالية القرار الفلسطيني ورفض التبعية والاحتواء الذي جسده الرئيس القائد الراحل أبو عمار حتى آخر يوم في حياته. ولم يكن هذا الشعار يعني له بحال من الأحوال الاستغناء عن محيطه العربي الرسمي والشعبي أو الانعزال عن أمته العربية والإسلامية وأصدقاء القضية الفلسطينية في العالم.
وظلت الوحدة الوطنية عاملاً إستراتيجيًّا وأحد ثوابت السياسة الفلسطينية في كل مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني، والعودة اليوم إلى الوحدة الوطنية، وإنهاء الانقسام الذي دام عشر سنوات عجافًا بفضل الجهود المصرية التي تستحق الشكر، هي عودة إلى الخط المستقيم الموصل إلى تحقيق الأهداف الوطنية المشروعة لشعبنا في الحرية والاستقلال وإقامة دولتنا وتقتضي المصالحة الفلسطينية تغليب المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني على ما سواها من مصالح وارتباطات وإيديولوجيات خاصة في هذه المرحلة المظلمة من واقعنا العربي والإقليمي، وما يخطط له من تسويات وصفقات قد تتجاوز وتقصر عن الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني التي أجمعت عليها مختلف الفصائل والقوى والحركات والأحزاب الفلسطينية.
وإذا كانت المصالحة تسقط بعض الذرائع الإسرائيلية للتهرب من المفاوضات والتسوية كموضوع التمثيل الفلسطيني، فإنها أعادت تكرار طرح مجموعة الذرائع على طريق الدخول في مفاوضات للوصول إلى تسوية عادلة ودائمة كشروط الرباعية الدولية من اعتراف حماس بإسرائيل ونزع سلاحها وتخليها عن المقاومة واعتماد المفاوضات السلمية كطريق لحلّ الصراع وتحقيق التسوية وعدم الدخول في مفاوضات، أو التعامل مع حكومة وحدة وطنية، أو توافق تشارك فيها حماس.
ويدرك الفلسطينيون على مختلف انتماءتهم وفصائلهم الوطنية والإسلامية أنَّ حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، قد أزاحت موضوع التسوية مع الفلسطينيين من أجندتها وفقًا لمبدأ حلّ الدولتين قبل المصالحة وبعد المصالحة، بل إن إسرائيل وأحزابها من اليمين والمركز واليسار قد انزاحت إلى مواقع اليمين المتطرف وبات الاستيطان القاسم المشترك لبرامج الأحزاب اليمين والوسط (المركز). وهو ما أوضحته تصريحات زعيم حزب العمل الجديد وقائد المعسكر الصهيوني غاباي الطامح لخلافة نتنياهو في الانتخابات القادمة. ويبدو أنَّ نتنياهو الذي تحيط به تهم الفساد وتلاحقه تحقيقات الشرطة لم يعد الشخصية المقبولة دوليًّا وإقليميًّا لتمثيل إسرائيل في مراحلة صفقة القرن لفجاجة طروحاته اليمينية رغم أنّها تعزز من شعبيته لدى اليمين المتطرف الإسرائيلي الذي لا يرى سوى "الخطر الداهم" على إسرائيل من فوقها ومن تحت أرجلها.
ورغم أنَّ نتنياهو لا يزال يتمتع بأغلبية برلمانية ورغبة في إتمام ولايته في رئاسته الحكومية إلا أنَّ حلفاءه ملّوا من طول فترة توليه رئاسة الوزراء، ووقفوا في الجانب الآخر من سعيه لسن قانون يمنع محاكمة أو التحقيق مع رئيس الوزراء أثناء فترة ولايته في تهم تشغله عن التفرغ لوظيفته الأساسية في إدارة الحكومة.
واللافت أنَّ الإدارة الأمريكية وعلى لسان مبعوثها للشرق الأوسط غرين بلات تبنّت الموقف الإسرائيلي من المصالحة لناحية الاشتراطات ما يغلق الباب أمام مبادرتها المبهمة التي يروّج إليها في كثير من وسائل الإعلام على لسان مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين وعرب، والتي لم يظهر منها غير هدف خلق تحالف في المنطقة أو محور تكون إسرائيل جزءًا أساسيًّا منه يؤمن المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المقام الأول ويعطي طمأنينة زائفة لبعض الدول والأنظمة العربية.
وفي كل الأحوال، فإنَّ المصالحة وإنهاء الانقسام بمقدار ما هما ضرورة استراتيجية فلسطينية لتمكين القيادة الفلسطينية من الحفاظ على موقفها وتمسكها بالحقوق والثوابت الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني والصمود في وجه الضغوط العربية والإقليمية والدولية المتوقعة، فإنَّ المصالحة بحاجة إلى مرونة الأطراف المتصالحة في التعامل الواعي مع المستجدات وعدم الانجرار إلى مواقع ومحاور قد تذهب بحقوق الشعب الفلسطيني ومنجزاته النضالية التي تراكمت على مدار نصف قرن فالزمن العربي الرديء الذي نعيشه لا ينتج غير تسوية رديئة تكون حقوق الشعب الفلسطيني ضحيتها.