أ.د/ إبراهيم أبراش
بالرغم من أن إسرائيل تفرض وقائع على الأرض تجعل الدولة الفلسطينية على حدود 67 شبه مستحيلة وهذا ما يقوله مسؤولون في الاتحاد الأوروبي وما تحدثت عنه وثيقة أمريكية تقول ذلك بالإضافة إلى تصريحات مسؤولين فلسطينيين بمن فيهم المفاوضون أنفسهم والرئيس أبو مازن، كما أن الإسرائيليين وخصوصا نتنياهو وحكومته يرفضون قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، بالرغم من ذلك يستمر الحديث عن حل الدولتين، فكيف نفسر هذا التعارض والتناقض؟
يبدو أن حل الدولتين وما يتضمن من قيام دولة للفلسطينيين بات حمال أوجه أو ينتمي للمصطلحات المراوغة التي لا يمكن ضبطها، الوطنيون الفلسطينيون يريدونها وطنا قوميا انطلاقا من حقوقهم التاريخية في فلسطين، والعالم يريد أية دولة للفلسطينيين وأينما تكون كحل للصراع، والإسرائيليون يريدون دولة مسخ تستوعب غالبية المواطنين الفلسطينيين الذين تعتبرهم قنبلة موقوتة، وخوفا من الدولة الواحدة، حتى يقيموا دولتهم اليهودية.
ومع ذلك ولأن بديل قيام دولة فلسطينية مستقلة هو الدولة الواحدة ثنائية القومية وهو الحل الذي ترفضه إسرائيل، أو استمرار حالة الصراع إلى ما لا نهاية وهو ما تخشاه إسرائيل وما يرفضه العالم، فإن المتوقع قيام دولة فلسطينية ولكن بجغرافيا مختلفة .
بالرغم من انطلاق التسوية مع أوسلو وقبله مؤتمر مدريد وتأسيس التسوية على مبدأ الأرض مقابل السلام، فلا مؤتمر مدريد ولا اتفاقات أوسلو تحدثت عن دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967. الفلسطينيون وحدهم فسروا أن اتفاقية أوسلو ستؤدي عند نهاية المرحلة الانتقالية في مايو 1999 إلى قيام الدولة، أما إسرائيل فلم تُلزم نفسها بدولة فلسطينية ولم تتحدث عن إمكانية قيام دولة للفلسطينيين إلا بعد أن طرح الرئيس بوش فكرة الدولة عام 2002، ثم تمت الإشارة إليها في خطة خارطة الطريق ثم في قرار مجلس الأمن 1515، وبالرغم من هذا الاعتراف وكما ذكرنا كانت إسرائيل تعمل كل ما من شأنه تدمير الحلم الفلسطيني بالدولة وخصوصا من خلال استمرار الاستيطان.
وهكذا فإن الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشريف لا تؤسس على أي قرار دولي واضح بل على تفاهمات ووعود، حتى القرار 1515 الصادر عن مجلس الأمن في نوفمبر 2003 والخاص بتبني خطة خارطة الطريق التي تحدثت عن دولة للفلسطينيين لم يحدد مكان وحدود الدولة الفلسطينية حيث جاء فيه: يؤكد من جديد على رؤيته التي تتوخى منطقـة تعيش فيها دولتان، إسرائيل وفلسطين، جنبـا إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها [... ] يؤيد خريطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية، القائمة على الأداء والمفضيـة إلى حل دائم للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني يقوم على أساس وجود دولتين، فالقرار يتحدث عن مرجعية قراري مجلس الأمن 242 و 338 ويتحدث عن (منطقة) تعيش فيها دولتان ولم يتحدث عن دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 67 ولم يتحدث أيضا عن القدس وحق العودة .
أيضا قرار الاعتراف بفلسطين دولة مراقب في نوفمبر 2012 لم يحل الإشكال لأنه قرار صادر عن الجمعية العامة، وبالتالي غير ملزم والأهم من ذلك أنه لم يتم اعتماده كمرجعية للمفاوضات الجارية حيث عادت المفاوضات لتجري على أساس اتفاقية أوسلو وخطة خارطة الطريق اللتان تعتبران الضفة والقطاع أراضي متنازع عليها.
هذا الغموض المقصود هو ما شجع ويشجع إسرائيل على التلاعب بفكرة حل الدولتين، فبما أنه لا يوجد مرجعية دولية تلزم إسرائيل بحدود الدولة وسيادتها، فهذه الدولة للفلسطينيين يمكن أن تكون في الأردن أو هي الأردن، وقد ناقش الكنيست الإسرائيلي قبل فترة هذه الفكرة، وقد تعمل إسرائيل على أن تكون هذه الدولة في قطاع غزة فقط. وشارون لم يخرج من غزة عام 2005 عبثا، أليس قطاع غزة مجاورا لإسرائيل ولا يوجد به استيطان ومتواصل الأجزاء وقابل للحياة كما تقول خطة خارطة الطريق، ما دام له بحره وحدوده مع مصر؟! وقد تكون الدولة كانتونات فيما سيتبقى من الضفة يديرها فلسطينيون وليسموها دولة أو ما يشاؤون ما دامت السيادة والأمن لإسرائيل.
الانقسام الفلسطيني والانقسام الجغرافي بين غزة والضفة وعجز السلطة والنخب السياسية الفلسطينية على الارتقاء لمستوى التحدي هو ما يجعل لإسرائيل الخيار في رسم ملامح وحدود هذه الدولة إن اضطرت أن تمنح الفلسطينيين دولة، وللأسف فإن البعض من الفلسطينيين يتقاطعون مع إسرائيل في هذه الرؤية. فحركة حماس لا تسعى الآن إلا لدولة في غزة وأن يتم التعامل مع الضفة وبقية فلسطين كأراض محتلة يُترك أمرها للزمن أو لطير أبابيل ترمي اليهود بحجارة من سجيل !، والحكومة في رام الله تتجه شيئا فشيئا نحو الرؤية الاقتصادية للحل الذي تحدث عنه نتنياهو وبلير وتشجعها الإدارة الأمريكية، هذه الحكومة باتت تنسلخ شيئا فشيئا عن المشروع الوطني وتفقد كل المضامين السياسية السيادية لتختص فقط بتدبير الأمور الحياتية لسكان الضفة الغربية في انتظار إما الحل الأردني أو ما تتفتق عنه العبقرية الصهيونية من حلول، وللأسف فإن ما تسمى فصائل العمل الوطني تقف موقف المتفرج أو كشاهد زور على ما يجري، فلا هي قادرة على الدخول بالحكومة وتَحَمُّل المسؤولية ولا قادرة على وقف مسلسل الانهيار الذي يتعرض له المشروع الوطني.
وهكذا مقابل تراجع فرص دولة 67 التي تحدث عنها إعلان الاستقلال في الجزائر 1988 يتم بالخفاء التخطيط لدولة للفلسطينيين لا تتطابق مع حدود 67 وغير منصوص عليها ضمن أي قرار أو اتفاقية دولية .
وهناك فرق بين الدولة الفلسطينية وبين البحث عن دولة للفلسطينيين، الأولى تأكيد حق تاريخي للفلسطينيين على أرضهم التاريخية، والثانية تأتي نتيجة صفقة إقليمية دولية أو منحة من واشنطن أو إسرائيل وهكذا دولة لن يُكتب لها الحياة طويلا.
الدولة الوطنية تراجعت أيضا بسبب أخطاء فلسطينية داخلية ، وتراجعت بسبب تراجع حاملها الوطني وهو منظمة التحرير وحركة فتح، وتراجعت بسبب الانقسام الذي يؤسس لدولة غزة، وتراجعت بسبب مشروع إسلام سياسي لا يؤمن بالدولة الوطنية، وتراجعت بسبب إحياء الخيار الأردني ولو بالخفاء
وتراجعت بسبب أن السلطة حلت محل الوطن والدولة