الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إحياء الذاكرة: بين بلفور والبصة وتيريزا ماي- بقلم: عمار الدويك

2017-10-30 05:24:43 AM
إحياء الذاكرة: بين بلفور والبصة وتيريزا ماي- بقلم: عمار الدويك
د. عمار الدويك

 

الزمان: 4 سبتمبر 1938. المكان: قرية البصة الفلسطينية – قضاء عكا. المشهد: مجموعة مسعورة من الجنود البريطانيين يقتحمون القرية الامنة. وبعد إجبار شباب القرية على الخروج إلى الساحة العامة، يبحث الجنود بغضب في وجوه الشباب على كبش فداء لإرضاء غريزة الانتقام لديهم بعد مقتل وجرح 4 من زملائهم في انفجار لغم مزروع على طريق قرب القرية، لم يعلم مصدره او الجهة التي زرعته. يبدو ان شهوة الانتقام كانت كبيرة، فلم يكتف الجنود بإعدام شاب أو شابين ميدانيا كما يفعلون في العادة في مثل هذه الحالات، وإنما قاموا بإجبار أكثر من ثلاثين شاباً من أبهى شباب القرية على الصعود إلى حافلة، وتحت تهديد السلاح ارغموا السائق على الانطلاق باتجاه طريق زرعها الجنود البريطانيون للتو بعدد من الألغام. النتيجة الحتمية: مقتل الشباب جميعا نتيجة الانفجارات، والجنود يتركون النار تلتهم الجثامين وتتفحم الأجساد البريئة التي لا تدري بأي ذنب قتلت، وبعدها يطلب الجنود من سكان القرية حفر قبر جماعي لدفن أبنائهم بأيديهم.

 

هذا المشهد الفظيع، هو واحد من آلاف الوقائع المروّعة التي ارتكبها البريطانيون بحق شعبنا في فترة الاحتلال البريطاني المباشر لفلسطين، والمعروف بفترة الانتداب البريطاني، والذي مهد وهيأ الظروف للجريمة المستمرة التي باتت تعرف باسم إسرائيل. وقد ظهرت شراسة هذا الاحتلال وجبروته في فترة ثورة الشعب الفلسطيني في سنة 1936، والتي أخمدها البريطانيون بالحديد والنار. فخلال سنوات الثورة قتلت القوات البريطانية، ومعها ميليشات وعصابات الصهاينة، أكثر من 5 ألاف فلسطيني، وجرحت أكثر من 15 الف، وزجت في السجون أكثر من 50 الف (وصل عدد المعتقلين في بعض الأوقات 10 الاف في وقت واحد). كما صدرت احكام بالسجن المؤبد بحق 2000 واعدم شنقا 150، وتعرض 5000 منزلاً للهدم. فضلا عن مئات المبعدين من قيادات الحركة الوطنية، ونزوح ألاف العائلات إلى خارج فلسطين. ووفقا للمؤرخ البريطاني يوجين روجان، فإنه مع نهاية الثورة في سنة 1939، كان حوالي 10% من الذكور البالغين الفلسطينيين إما قتلوا أو جرحوا أو تعرضوا للاعتقال أو الابعاد. ولتصور فظاعة وقسوة هذه الانتهاكات، يجب ان نتذكر بان عدد الفلسطينيين في تلك الفترة لم يتجاوز المليون. ولو اخذنا بالنسبة والتناسب مع عدد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة اليوم (ولا أقول جميع الفلسطينيين)، سيكون عدد الشهداء 30 الف شهيد، واكثر من ربع مليون معتقل، وهدم أكثر من 30 ألف منزل.

 

بهتت مشاهد الجرائم البريطانية في الذاكرة الفلسطينية المثقلة بالمآسي، وتراجع وقعها تحت ركام الجرائم التي ارتكبتها الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال بعد ذلك. فأصبحت جرائم الانتداب وقائع صغيرة مقارنة بالنكبة الكبرى واقتلاع شعب كامل من أرضه. فلم يعلق بالذاكرة سوى احداث بسيطة ولم نعد نذكر سوى وعد بلفور، الذي باتت ذكراه السنوية مناسبة لإطلاق بعض البيانات والتصريحات او كتابة التحليلات والمقالات. 

 

الزمان: 25 أكتوبر 2017. المكان: مجلس العموم البريطاني. المشهد: رئيسة الوزراء البريطانية تعلن " نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر"، لتعيد إلى الاذهان الوجه البشع لبريطانيا الاستعمارية. لم تظهر المسؤولة العجوز أي حساسية لما اقترفته بلادها من جرائم بحق الفلسطينيين، سواء بشكل مباشر من خلال ما قامت به القوات البريطانية من مذابح أو غير مباشر من خلال جرائم الحركة الصهيونية التي عملت بحماية القوات البريطانية، لتعيد إلينا مشاهد نسيناها او حاولنا نسياناها، وتذكرنا بالبصة، وبثورة 36 وبأعواد المشانق ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، وتذكرنا أن بريطانيا التي احتلت فلسطين احتلالا مباشرا، وقامت بكل ما بوسعها لتسهيل اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وإقامة كيان استعماري مكانه، ما زلت تقف في ذات الخندق في مواجهة الشعب الفلسطيني. شكرا تيريزا ماي لإنك أحييت ذاكرة ما كان يجب لنا ان ننساها، وشكرا لتذكيرك لنا بمن هم أعداؤنا.