الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

(وعد بلفور) والثبات على الجبل ! بقلم: محمد شريم

إشارة

2017-11-07 06:47:35 PM
(وعد بلفور) والثبات على الجبل ! بقلم: محمد شريم

عندما كان العرب يُمنّون النفس بأن يقف حليفهم الإنجليزي إلى جانبهم بالفعل ـ كما وعد ـ في سبيل استقلالهم وإقامة دولتهم في المشرق العربي فاجأهم بوعد معاكس وقع عليهم كالصاعقة ، ألا وهو وعد وزير خارجيته بلفور ، الذي أعرب فيه عن رغبة بريطانيا بأن يُعطى اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين ، ليصبح الكيان الوليد بمثابة رأس حربة استعمارية جديدة غائرة في صدر هذا المشرق ، وهو الوعد الذي وُصف بأنه وعد من لا يملك إلى من لا يستحق!

 

وما أن صدر ذلك الوعد في العام 1917 حتى ضج العرب في جميع بلدانهم واحتجوا مستهجنين هذا الوعد ومستنكرين ، وتساوى في ذلك السياسيون والإعلاميون والمثقفون ورجال الدين مع الأشخاص العاديين ، وكان من بين هؤلاء جمهور الشعراء الذين نظم الكثيرون منهم القصائد ـ التي هي أقرب ما تكون إلى أن تجمع ما بين الرثاء والهجاء في نفس السياق  ـ من أجل فضح هذا الوعد والتوعية من أخطاره .

 

وكان من شعراء فلسطين الذين تناولوا وعد بلفور في قصائدهم كل من عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان ومحمد علي الصالح ، أما الشعراء العرب فقد نظم العديد منهم أيضاً قصائد في التنبيه من هذا الخطر الداهم ، والشر المستطير ، غير أن قصيدة الشاعر اللبناني رشيد سليم الخوري الملقب بـ (الشاعر القروي) كانت من أشهر هذه القصائد ، إن لم تكن أشهرها ، وهي أحب ما قرأتُ من هذه القصائد إلى نفسي ، ربما لأنها تمزج بين الماضي والحاضر ، والألم والأمل ، في قالب شعري جميل ، وقد قرأتها في سنوات الصبا مرات ومرات وما زلت أحفظ من أبياتها الكثير ، ومطلعها :

الحق منك ومن وعودك أكبرُ = فاحسب حساب الحق يا متجبرُ

 

أما الآن ، ومع ما نشهده من تردي الحالة السياسية في البلدان العربية ، لدرجة قد اختلط فيها الحابل بالنابل ، والغث بالسمين ، والأسود بالأبيض حتى أنك صرت تواجه صعوبة جمة في التمييز بين المواقف التي تصدر عن هذا الشخص أو تلك الجهة بين الحين والحين لما بينها من التضارب، فقد أصبحتَ ترى من يسير في الاتجاه وعكسه في الوقت نفسه ، ومنهم من يقول الشيء ويفعل ما يخالفه ، ومن هؤلاء الناس تلك الفئة ـ وما أكثرها في هذه الأيام ـ التي تعلن عن استنكارها ومعارضتها لوعد بلفور ، ولكنها على أرض الواقع تسير بناء على الخطوط التي رسمها ، مما يفقد هذا الاستنكار معناه وتلك المعارضة جدواها !

   

وما دمنا نتحدث عن وعد بلفور في الشعر ، باعتبار أن الشعر شجرة وارفة الظلال في حقل الثقافة اليانع ، فإن على الشعراء بشكل خاص وأهل الثقافة بشكل عام أن يكونوا سدنة المبادئ والقيم التي تحول بينهم وبين الانخراط فيما يرضاه السياسي لنفسه من القبول بأنصاف الحلول ، أو اللعب في المنطقة الرمادية !

    

إن ترفع الشاعر أو المثقف عن الانخراط فيما يمكن أن يقبله السياسي لنفسه من القبول بأنصاف الحلول ، والتي تعني ـ بلغة أخرى ـ أنصاف الحقوق يعني بالضرورة أن الواقع يتطلب منه أن يكون صدامياً بفكره الأصيل مع العدو والصديق، أو نصف الصديق، على السواء دفاعاً عن أفكاره ومبادئه ، وإن تفاوتت حدة الصدام ومدته وساعته ، بين العدو ونصف الصديق هذا ، وهذا الصدام هو بالضبط الذي قصده أمير الشعراء بقوله قبل عشرات السنين:

قف دون رأيك في الحياة مجاهداً = إن الحياة عقيدة وجهادُ

 

ولكن كيف يمكن أن يمارس الشاعر والمثقف في هذا المجال جهاده الفكري يا ترى؟

أعتقد أنه يمكن للشاعر وللمثقف ذلك من خلال تمسكه أمام نفسه وضميره ومبادئه بالتزامات ثلاث : أول هذه الالتزامات هو الثبات على الموقف الفكري باعتبار وعد بلفور وعداً باطلاً أصلاً ، وعليه فإن ما بُني على باطل فهو باطل ، وثاني هذه الالتزامات هو عدم الانجرار وراء التطبيع الثقافي ، أي عدم التعامل مع الكيان الناتج عن وعد بلفور باعتباره جزءاً طبيعياً من ثقافة المنطقة ، أما الالتزام الثالث فهو الانتباه والحذر من الانزلاق نحو استخدام المصطلحات والمسميات الناتجة عن هذا الوعد وما تم استناداً إليه من إجراءات على أرض الواقع .

    

إن مواقف السياسيين يمكن تشبيهها بسحابة الصيف التي تمر في وقت محدد ، طال أو قصر ، وما تلبث أن تختفي ، أما مواقف المثقفين ـ ومنهم الشعراء ـ فهي تلك السحب المتفرقة التي إذا ما تجمّعت واحتشدت في السماء فلا شك أنها ستؤثر على الجو العام ، وستسقط غيثاً يحيي الأرض أو ـ لا قدر الله ـ ستنهمر مطراً جارفاً ينهك الإنسان ويدمر البنيان ، ومن هنا تأتي أهمية أن يلتزم المثقفون فيما يتعلق بوعد بلفور بمبادئهم التي فطروا عليها ، وأن تكون مواقفهم مقياساً للسياسيين لا أن تكون انعكاساً لهم ، ولا يغرنّهم خروج بعض هؤلاء السياسيين في مرحلة ما من التاريخ عن المسار المنطقي للأحداث ، بل عليهم أن يلتزموا مواقعهم حتى لو نزل هؤلاء السياسيون عن الجبل !