1.
منذ امتلك الهوموسابيان/الإنسان الوعيَ اكتشف العالم وتعدد تمظهراته وكائناته، بتعبير آخر امتلك القدرة على إدراك حضوره، بما فيه، بالنسبة إليه، وحضوره هو ذاته بالنسبة إلى الآخرين وإلى الأشياء، اكتشف الخطر أيضا وأدرك مع الوقت كيف يستغله لصالحه، حتى صار البشريّ واحدا من أخطر المفترسات التي يوحي ظاهرها بالضعف، ويصنع وعيها قوة قاهرة. بهذا كله شرع في البحث عن الحقيقة، بل أدرك ربما تلك السلطة التي يمتلكها على الأشياء كلما تحصّل على معرفة جديدة. وكانت اللغة دائما عين الوعي حين يدرك ويصف أو يبتدع، حين يفكّر أو تسيطر عليه الحيرة والوساوس.
2.
ترتبط إرادة الحقيقة بإرادة السلطة بحسب ميشيل فوكو، لكنها قد تضيع في سبيل السلطة. ومع هذا لا ينقطع الهاجس الداخلي التائق إلى الاكتشاف، والمهووس بالمعرفة. لذلك تبتدئ رحلة البحث عن الحقيقة في وعي الفرد كما قد تنتهي حين تنجح رؤية أحدهم في التأثير على الجماعة فتكون قانونا أو ديانة أو طريقة حياة. هكذا يتمّ تقديس بعض حقائق الأفراد التي استطاعت السيطرة على الناس، التي تحولت إلى حقيقة السلطة، لكن هل يمكن تأبيدها؟؟!!!.
3.
وبرغم سيطرة خطاب ما على جماعة بشرية لا تتوقف الوساوس. بل تظلّ تنشب في التفكير حريقا عند بعض الأفراد. وإذ يتخلص منها بعضهم حين ينسبها إلى قوى شريرة أو إلى سوء تفكيره؛ تظل عند آخرين متّقدة، متعِبة، تصل ببعضهم، حين يصدقونها، إلى الجنون أو إلى سبل حقيقة جديدة. لكنها ستحاصر، بمجرد الجهر بها، من طرف حقيقة السلطة، أو ما يعتبره المجموع الحقيقة. كما قد يصل الأمر إلى ممارسة العنف عليها-بحسب فوكو دائما-الذي يبدأ من التسفيه إلى الإقصاء، وقد يصل، إذا كانت تلك الرؤى تهديدا للسلطة، إلى الاغتيال كما حدث مع شخصيات كثيرة عبر التاريخ.
4.
كل هذا يؤكّد على أمور جوهرية كثيرة، لعل أهمها أنّ الحقيقة تفتقر دوما إلى الثبات رغم مركزيتها أو هامشيتها. من أجل هذا يظل العالم واحدا، لكن معناه لا يتوقف عن الترحّل والاختلاف عبر المكان والزمان والإنسان. وبهذا يختلف حضور المعنى عند ثلاث فئات من البشر:
.من ينتمون إلى خطاب السلطة مهما تكن دينية أو اجتماعية أو سياسية، وهم غالبا تطغى عليهم اليقينية فيقهرون الوعي حين يحاول التنبيه إلى مشاكل خطابهم، ويعتبرون ذلك مجرد وساوس.
.من ينتبهون إلى تعدد المعنى داخل الخطاب الواحد، وفي الخطابات الأخرى، فيؤمنون بنسبيته، بنسبية الحقيقة أيضا. وربما سيظلون متمسكين بخطابهم ومتصالحين إلى حد ما مع خطابات الآخرين.
.من هذه الفئة الثانية، هناك من تستبد بهم الوساوس حتى تبدو لهم نسبية الحقيقة وتعدد معانيها من جماعة إلى أخرى، من ثقافة إلى غيرها، ضياعا للمعنى. وبهذا قد ينتهون إلى العدمية.
5.
ما تكون هذه الوساوس الآن؟! لماذا تستمرّ دائما؟! هل هي مؤشر ليقظة الوعي حين لا تكفيه حقيقة سائدة ومسيطرة؟! هل يمكن اعتبارها مجرد وساوس عارضة؟! لكن لماذا تستمر عند بعض الأفراد لدرجة توصلهم إلى سلوك طرق أخرى كتغيير القناعة الفكرية أو تغيير المعتقد(أشير إلى المتحولين الدينيين)؟!! ما تكون هذه الوساوس يا صديقي الإنسان وما الذي يجعلها تستفيق؟؟!!!!
6.
سأحكي لك حكاية لا تعني بالضرورة الحقيقة، قد لا تكون هناك حقيقة واحدة، قد لا تكون هنالك حقيقة أصلا؛ لكنْ:
في المسلسل التلفزيوني الشهير فاينكنغ شخصية راهبٍ يأخذه معه فاغنر بعد غزو منطقة إنجليزية، يجد نفسه في مجتمع آخر، مكان مختلف، لكن الأقسى أنه يجد نفسه داخل نسق حقيقة غريبة، مختلفة حد الجنون، داخل حقيقة الوثنية. وبرغم مقاومته وتمسكه بمسيحيته وإلهه تستفيق فيه الوساوس. مع الوقت يجد نفسه مؤمنا بالمسيح وبأودن أحد آلهة الفايكنغ في آنٍ واحد، ثم يترك المسيحية ويعود إليها، بل يختارها في النهاية ويقتله خفيةً فلوكي بسببها لأنه لا يرى حقيقة خارج الوثنية.
7.
ما الذي تغيّر بالنسبة إلى هذا الراهب؟! اللغة، المكان، الثقافة وطبيعة العيش، الإنسان، والمعتقد، هل يمكن اعتبار هذه العوامل سببا في استفاقة الوساوس؟! ربما بالنسبة لأفراد معينين، لكن تلقي الإنسان للظروف يختلف دوما، هناك أيضا من تعاطى مع هذه العوامل وظل مؤمنا بحقيقة قومه، بل هناك من مات تحت التعذيب ولم يغيّر دينه ولا قناعاته.
8.
لا يمكن الجزم إذًا...ومع هذا أيضا لا يمكن إنكار الوساوس، ولا قطع رابطها القوي مع إرادة الحقيقة ومع ترحّل المعنى واختلافه الدائم بالنسبة إلى الفرد وإلى المجموع. ربما نحن ندين بتطورنا للوساوس، ربما لا يليق بنا أنْ نلعن الشيطان حين تستبدّ بنا لأنها في النهاية جزء من وعينا المعقّد، وضوء لا يكفّ عن الظهور فجأة في بواطن الإنسان...!!!!
ربما أيها الهوموسابيان الغريب..ربما.