"الفن هو الكذبة التي تجعلنا نكتشف الحقائق"، يقول بيكاسو ونؤيد، وإحدى أهم هذه الحقائق، أننا يجب أن نفرق بين دعمنا الكامل غير المشروط أو المحدود لأهلنا في الداخل الفلسطيني، وبين من يَهِمُ لتمثيل فلسطين في الخارج. علينا أن نتخلص من عقدة أننا شعب بحاجة دائمة إلى الدعم الخارجي، لأننا في حقيقة الأمر بحاجة دائمة لدعم أنفسنا أولاً.. من الجدير بنا أن نرسخ مبادئ قيمنا وثقافتنا الاجتماعية والسياسية، كي نحرر عقولنا من انغلاق العواطف لصالح الانفتاح على الأفكار والروئ الإنسانية والثقافية والحضارية.
وهذا لا يعني أننا ضد الفن، بل بالعكس تماماً، نحن مع الفن، لأنه هو الحكاية الشعبية بكل أحداثها، هو صوت المرآة، حينما ننظر فيها فنسمعها وتسمعنا، هو الأمل في المدى المنظور، هو جنون الفكرة، وفكرة الجنون.. الفن هو كل تفاصيل الأرض، ونحن لسنا غرباء عنها، هو أن ننتمى إلى أنفسنا أولاً وقبل أي شيء آخر.
محاولة البعض الادعاء أن صحيفة الحدث وكاتب هذه السطور تحديداً، يقود حملة ضد المتسابقة منال موسى، التي ما زالت تداعيات مشاركتها في برنامج "أرب أيدول" تثير الكثير من الغبار حولها، هي محاولة بائسة لا تمت للحقيقة بشيء، ولا علاقة لها بمجريات التفاعل، سواء بشكل سلبي أو إيجابي، فنحن يا سادة نعمل في مهنة الصحافة التي تفرض علينا تقديم المعلومة للقارئ المتلقي كما هي، لا تلقينه.. وأنا هنا لست مجبراً ولا مضطراً على شرح ما تعني المهنية التي يدعي البعض أننا ابتعدنا عنها، وتهرّب أو انشغل في شرح كيف ابتعدنا عنها.
نحن لسنا مع أحد ضد أحد، ببساطة لأننا لا نعرف هذا ولا ذاك، ولكننا نعرف تماماً ما هو دورنا، كما نعرف أننا مع الفعل وتداعياته بكل ملء الفم والعين.. الفعل الذي يثبت هويتنا الوطنية وانتمائها لهذه الأرض برابط واحد يجمع الكل الفلسطيني من الماء إلى الماء، الفعل الذي يشرف فلسطين.. فلسطين التي لا تشوبها شائبة، لا التي يُدخل إلى بيتها كل الشوائب.
هذا الفعل الذي نؤمن به، لنفكك سؤال الهوية لدى أهلنا في الداخل، خاصة وأن الفترة الأخيرة تشهد حراكا ثقافياً هاماً وضرورياً في هذا الاتجاه، لا لكون أهلنا في الداخل لم يعالجوه قبلاً، وإنما لأنه اليوم بات ملتبساً، فأن تحمل جنسية المحتل، لا يعني أن ترضخ لشرط الاحتلال وثقافته.
وبدلاً من أن ننشغل كل هذا الانشغال ببرنامج غنائي ربحي ترفيهي بامتياز، علماً بأني لا أنادي بمقاطعته، خاصة ولنا تجربة حسنة فيه عنوانها يسمى محمد عساف، ولكن شرط ألا يأخذنا هذا إلى مناطق الاختلاف عوضاً عن نقاط الاتفاق التي يمكن أن نبني عليها لننشغل أكثر في كيفية التخلص من الاحتلال.. أن ندفع باتجاه تحريك الوعي الجمعي لمناقشة ماهية مفاهيم الحرية والديمقراطية، أن نتعلم ثقافة الاختلاف، أن نعمل بشكل مسؤول وجماعي على ترسيخ المصالحة المجتمعية، لنفرض على الساسة المصالحة السياسية، كي نجيب معاً وسوياً على سؤال، كيف سنحافظ على القدس ونحميها من سعار التهويد.
نحن يا سادة ندعم فلسطين محمود درويش، وأدوارد سعيد، وغسان كنفاني، وتوفيق زياد، وأبو عرب، وسميح القاسم، إلى آخر سلالة المبدعين الكبار بفعلهم لا بأقوالهم.. ندعمهم لأنهم يشبهون فلسطين الأرض، فلسطين المخيم، فلسطين الأسرى، فلسطين الشتات، فلسطين أمل الحرية.. لا كل من هب ودب، ليقول أنا فلسطين.. لا سيدي أو سيدتي، أنتم لستم فلسطين.
فالأسرى هم فلسطين، والجرحى هم فلسطين، وأرواح الشهداء هي فلسطين، وكل من قاوم وصمد بالكلمة والحرف والروح هؤلاء هم فلسطين. أثبتوا لأنفسكم أولاً قبل غيركم أنكم من هؤلاء، أثبتوا لنا كذب وادعاء ما نسمع ونقرأ ونتابع، لنعلنها بشكل واضح وصريح اعتذاراً رسمياً وإعلان توبة. وأثبتوها لأنفسكم أولاً، ليعلم الجميع هنا وهناك وفي كل مكان، ما معنى أن تكون فلسطينياً.