في المقال السابق تناولنا في الحديث عن إعلام حماس ما يعرف بالناطق الإعلامي، ووعدنا الكتابة حول القائد المتحدث لعظم تأثيره على تقديم الحركة وبيان منهجها.
وأشرنا في المقال السابق إلى نقاط القوة والضعف التي عليها هذه المؤسسة.
في هذا المجال تعتمد الحركات في تسويق حضورها، على اكريزما القائد، والتي من أهم خصاله القدرة على الخطاب، والتأثير في الناس، إذ اعتمد الحزبان الجمهوري والديمقراطي على سبيل المثال، على المناظرة والخطاب في تحقيق استقطاب الجماهير أثناء الانتخابات الأمريكية والتي تقوم في أساسها على فنِّ الحديث وقوالب الخطاب واتقانه، وكذا الحال في بعض الدول الأوروبية.
حتى المؤسسات التي تأخذ على عاتقها قياس أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم تتعاطى مع هذا المتغير كأحد المتغيرات المهمة لقياس الأثر الذي يتركه الأشخاص جراء حديثهم.
الحركات العربية والوطنية كان عصب حضور شخصياتها، الخطاب مقترنًا بالشعار، فبرز العديد في تاريخ العرب والفلسطينيين من خُلّد لقدرته على التأثير في الناس من خلال شخصيته وتاريخه وقدرته على إطراب الجماهير عاطفيًّا من خلال الخطاب.
حماس تعد من الحركات الأكثر استفادة في هذا الجانب، إذ برزت قياداتها في الانتخابات البلدية والتشريعية من خلال ما يعرف بشعبية المنابر، والتي فطنت لها السلطة الفلسطينية بعد الانقسام في الضفة الغربية، لذلك حاولت وما زالت تعمل على إنهاء حضور شخصيات الحركة في الضفة الغربية من هذه النافذة.
أدركت الحركة منذ انطلاقتها أهمية هذا الجانب، فأولته أهتمامًا كبيرًا عبر تعليم كادرها الخطابة، وفنّ الحديث، برغم تأخّرها في مجال التعاطي مع وسائل الإعلام، لندرة كادرها في هذا الجانب حتى ما قبل 10 سنوات.
لكن في المقابل، برز في تاريخها نوعية قيادية جيدة استطاعت البروز الإعلامي كما هو الحال، مع قيادة الصف الأول كالدكتور عبد العزيز الرنتيسي، ثم الآن إسماعيل هنية، وجمال منصور وبعض من قيادات الضفة، بالإضافة إلى الخارج كالسيد خالد مشعل، وأسامة حمدان وغيرهم من الشخصيات التي مثّلت الحركة بشكل غير مباشر على الساحات المختلفة منها الأوروبية.
في دراسة القائد المتحدث لدى حماس، يظلّ المنهج قاصرًا إذا اعتمدنا على الحضور الإعلامي فقط، واعتبرناه مساحة التأثير الوحيدة، إذ مكنت المرجعية الثقافية حضور الشخصيات القيادية، على منصات مختلفة منها المساجد، والمناسبات، بالإضافة إلى الخطاب المباشر في الأنشطة العامة، الحالة التي لا تتوفر لكثير من الفصائل.
هذا الحال بمجمله ساعد على انتشار الحركة، ومكّنها من فرض حضور فاعل ومهم، خاصة في مساحات التنافس كالجامعات الفلسطينية على سبيل المثال والتأثير على المستوى العام.
في السنوات الثلاث الماضية، من الواضح أنّ جاذبية القائد المتحدث خبت، وحلَّ محلها جاذبية الملثم في الحديث (الناطق باسم القسام أبو عبيدة)؛ الأمر الذي خلق فجوة بين ميول الناس للعسكر على حساب القائد السياسي لأسباب مختلفة منها:
أولاً: تكرار بروز الشخصيات القيادية ذاتها في القوالب ذاتها؛ ما ولَّد فتور المتابعة.
ثانيًا: تكرار الظهور المجاني أحيانًا بسبب ودون سبب؛ ما يُدخل القائد في أزمة الضعف في تقديم جديد الخطاب.
ثالثًا: دخول بعض القيادات في مساحة المناكفة الداخلية على حساب الملفات الجامعة.
رابعًا: التأثير الكبير على الصورة النمطية لشخصية القيادي في حماس، والتي تميل إلى القرب من الشعب، لكن حكم غزة مسّ هذه القناعة لدى الناس.
من الشهور الماضية عادت هذه الخاصية من جديد لشخصيتين من حماس، السيد يحيى السنوار، الذي استطاع عبر نمط جديد من الحديث بعيدًا عن الكميرا الحضور بشكل لافت ومهم، حيث أثارت تصريحاته انطباعات كبيرة عن الرجل لأسباب منها، الغموض وقوة العبارة، والمناسبة.
لكن هذا النوع من الحضور ليس طويلاً في العادة، لكن ما يساعد السنوار في هذه الحالة هو تصوّر الناس عن الرجل بقربه من العسكر وقدرته فرض معادلة القوة في غزة.
الرجل الثاني هو الشيخ صالح العاروري، الذي ساهمت في حضوره مؤخرًا العوامل ذاتها التي انطبقت على السنوار، بالإضافة إلى حجم الضخ الإعلامي حول الرجل في جانب الملاحقة وظهوره مرة واحدة في ملفات تعد الأكثر سخونة على صعيد الساحة الداخلية والخارجية، والمصالحة والعلاقة مع إيران وحزب الله.
ثم ظهوره كمنظر لتوجه الحركة في هذه الملفات الأمر الذي وفّر له قوة استقطاب للإعلام بشكل كبير.
الملاحظ أنَّ حماس وإنْ هي لم ترد ذلك، حصرت الحضور في هذا النمط المهم، لكنه أثَّر بشكل وآخر في حضور شخصية إسماعيل هنية التي كانت ولزمن الحالة الأكثر جاذبية في الخطاب.
المرحلة الماضية من الواضح أنَّ هناك فجوة في جانب الحضور القيادي في الإعلام والتي انعكست سلبًا على:
أولاً: اضطراب فهم كادر الحركة لمتغيرات كبيرة؛ ما ولَّد حالة نقاش في مواطن العلن، وصلت حدَّ الاختلاف.
ثانيًا: تراجع في الشخصيات الجاذبة للجمهور في صفوف الحركة بشكل واضح؛ ما حصر عنصر قوة حماس في أعداد قليلة.
ثالثًا: لم تجدد الحركة في بثِّ شخصيات جديدة غير القوية فيها منذ زمن.
رابعًا: انحسار الشخصيات العامة التي يعطيها الاستطلاع الشعبي وزنًا بشخصيتين غابت منها واحدة بعد الانتخابات الأخيرة لدى حماس (السيد مشعل)، الذي تحتاج الساحة الفلسطينية حضوره لمساحات تتجاوز الحاجة الحزبية.
خامسًا: لم تستطع الحركة تصدير شخصيات كثيرة مريحة للخطاب العام، من غير حماس، سوى أعداد قليلة.
الأمر الذي يتطلب برأيي جملة من الخطوات:
أولاً: الانتباه لحساسية وأهمية القائد المتحدث في جوانب مختلفة.
ثانيًّا: معالجة الصورة النمطية للقائد المتحدث والمناكف.
ثالثًا: الاهتمام بقوالب تقديم الشخصية المناسبة للحديث في الوقت المناسب بالمعلومة المناسبة.
رابعًا: عدم تقديم الشخصيات المثيرة للجدل، التي لا تُحسن التعامل مع الإعلام بشكل ظاهر وبيّن.
خامسًا: وقف تصريحات قيادات نمطية تعتاد الخطاب الصارخ والموتر، مع استبداله بشخصية الناقد المريح.
هذه المقالة تحتاج لتوسع أكبر، لكنها تسلط الضوء على جوانب مهمة من فهم حماس بشقي المتحدث باسمها، والقائد الناطق ليظل التقييم للمتابع، عن مواطن النقص التي تعتري المقالة، لننتقل في الحديث عن خطاب حماس عبر مقالة مستقلة الأسبوع القادم.