يقول المثل الدارج: "مَن ولد في العواصف لا يخشى هبوب الرياح"، فإنْ كان قدر الفلسطيني أن يجترح ثورته منتصف القرن الماضي، في ظل الكثير من العواصف التي رمت بها الحرب العالمية الثانية على تخوم المنطقة، فمن الطبيعي أن يكون قدره اليوم مجابهة هبوب ترامب وحلفائه من العرب والعجم والتي تعمل بكل جد على إزاحة المسألة الفلسطينية من قائمة أولويات الأجندة العربية والدولية.
نعم تغيرت الظروف الموضوعية والمعيارية معًا في كامل المنطقة العربية، بل في العالم أجمع، كما تغيرت الكثير من إستراتيجيات القيادة الفلسطينية بين زمن الثورة، وزمن إنتاج الدولة وما بينهما من تداعيات لا معنى ولا قيمة للتباكي عليها اليوم، فما كان كان، ولم يعد.
المعضلة الآن لا تكمن فيما تحاول إدارة ترامب فرضه من حلول تحت مسميات عدة تهدف جميعها إلى "أقلمة القضية بدلاً من تدويلها" وفق الشرط العربي الراهن المدفوع بالانحياز لمصالحه الضيقة والآنية فيما يدّعونه حول مواجهة الخطر الإيراني المحدق على كامل الشرق الأوسط.
والمعضلة الأكثر إيلامًا، تدور حول ثبات الفعل الفلسطيني في دائرة الحراك السياسي، فمنذ الانتفاضة الثانية بكامل كلفتها المادية والبشرية، وصانع الفعل الفلسطيني يدرك تمام الإدراك أنَّ الجانب الإسرائيلي بات غير معني بما كانت تطرحه اتفاقيات أوسلو حول حلّ الدولتين، ولكننا وبدلاً من البحث عن مسارات موازية، ذهبنا نتمسك بهذه الوصفة المسمومة التي أصبحت مستحيلة التنفيذ، ليس لأننا رفضنا سابقًا ما عرض على الرئيس الراحل ياسر عرفات، ولكن لأننا وضعنا كامل بيضنا في سلة "الوسيط الأمريكي غير النزيه"، فلم نبحث عن خيارات بديلة تفرض على الآخر المحتل ووسيطه الشريك في الاحتلال شروطًا أخرى لإدارة الصراع وصولاً إلى حلوله المنطقية والعادلة في آن.
إنْ كان ما تقدّم يصبّ في تشخيص ما حدث خلال العقدين الأخيرين، فما يدور في الإقليم اليوم يجب أن يفتح لنا آفاق ما يجب أن يكون في الراهن الصعب اليوم، فمن جهة علينا الانتباه جيدًا لما انتجه موقف الشارع اللبناني على اختلاف مشاربه السياسية من انتصار، ولو كان رمزيًّا لمحاولات الكسر التي استهدفته بأياد عربية للأسف.
وفي السياق، لا يعيبنا التعلم والاستفادة من إدارة النظام الإيراني لملف "النووي الإيراني" وكيفية إجباره للإدارة الأمريكية الدخول في اتفاق دولي لا ثنائي.
وبين هذا النموذج وذاك، علينا الإجابة لماذا ذهبت إدارة ترامب نحو الضغط علينا في هذا التوقيت تحديدًا عبر قرار وقف ترخيص المكتب التمثيلي لمنظمة التحرير في واشنطن؟
لا شكَّ أنّ الإجابة على هذا السؤال تحمل الكثير من التفسيرات وربما التأويلات، ولكن الثابت الوحيد يكمن في أهمية -بل ويمكننا القول-: في خطورة الحراك الفلسطيني إنْ توفَّرت له أسباب الإرادة، ومكمن الخطورة حاضر بفعل ما للقضية من حضور راسخ في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة، ما قد يودي بكامل المشروع الأمريكي في الإقليم، وبخاصة مشروع الشراكة الإسرائيلية العربية في سياق تحالف شرق أوسطي جديد، يهدف إلى وقف تمدد الهيمنة الإيرانية على بعض دول المنطقة.
إنَّ الإشارة إلى النموذج الإيراني بوصفه نموذجًا ناجحًا في إدارة صراعاته لا يعني بالمطلق أننا نتوافق مع مشاريعه وأطماعه في المنطقة، كما أنه لا يدعو إلى التحالف معه في مواجهة الأخطار المحدقة بالقضية الفلسطينية، ولكننا فقط نضعه في مرمى التبصر السياسي للاستفادة من التجربة.
ختامًا: إنْ صحَّ ما ورد رسميًّا على موقع حركة حماس، حول ما تمخض عنه اللقاء الثنائي بين رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية اللواء ماجد فرج والسيد يحيى السنوار رئيس الحركة في القطاع، خاصة فيما يخص "سلاح المقاومة" وتأكيد الطرفين أنه حقّ للشعب الفلسطيني طالما لم تقم الدولة الفلسطينية المستقلة، فنحن أمام ورقة فلسطينية يجب المحافظة عليها جيدًا في سياق الإدارة السياسية لهذا الصراع الذي بات الوصول إلى نتيجة له عبر حل الدولتين المتعثر من قبل، مستحيلاً من بعد.