لعدة أيام- عشرة أو يزيد – بقي السؤال الرئيس لدى الكثيرين "كيف كنت تتدبر أمورك مع الأكل؟".. ومعه كان البعض يسأل بشك، وهذه المرة بنسبة أقل "مؤكد أنك الآن تجيد الصينية؟".
خلال هذه الفترة، صاحبني كابوس تكرر لثلاث ليال قبل أن يقلع عن صدري.. كنت كلما وجدتني أصحو من النوم، أجحظ في النور من حولي؛ لأتفاجأ بأني لست في الصين.. لقد عدت من هناك، ولا داعي للقلق؛ فليس مطلوبا مني هذا اليوم أن أستيقظ باكرا؛ كي لا يفوتني موعد الإفطار في الفندق؛ أو حتى ألتحق ببرنامج الزيارات أو المحاضرات اليومي.
كانت صدمتي كبيرة.. لقد انتهت رحلتي إلى الصين، وأنا الآن في البلاد وعلي أن أدرك ذلك وأن أجيب على كل تلك الأسئلة التي يطرحونها.
الأكل ثقافة
نعم. لم يعد بمقدوري الإفلات من الإجابة على سؤال "كيف كنت تتدبر أمورك مع الأكل؟" وسط تفهم عام من السائلين إزاء إخفاقي في حفظ إلا عدد يسير من الكلمات الصينية بسبب صعوبة اللغة.
لما كان التفهم هو الحال السائد تجاه عجزي عن تعلم اللغة الصينية، وجدتني مجبرا على شرح أسلوب تكيفي مع الأكل في الصين.. وفي هذا الموضوع الأخير كنت أصر دائما، وأنا أؤمن بذلك يقينا، أن الأكل هو ثقافة تخص كل شعب من شعوب المعمورة يعتمد فيما يعتمد على البيئة السائدة، والأوضاع الاقتصادية للناس، ويمكن أن يكون تقليدا يتوارثه الأبناء عن الأجداد.. وإذا صح أن الأكل في هذا البلد صحي فإن أكلا مختلفا في بلد آخر يمكن أن يكون صحيا أيضا؛ إلا أن "اللذة" أو "الاستمتاع" مسألة عادة أو مران تعتمد على الشخص نفسه، ويمكن له أن يغير هذه العادة أو "يمرن" نفسه على اكتساب عادة جديدة أو أن يحب أكلة لم يعتدها.
في الـ "مران" الذي يعتبر الأسلوب الوحيد لكسر العادة واختبار الأشياء، لفتني اهتمام إحدى المشرفات على ورشة العمل التي دعيت للمشاركة فيها بتعلم أكبر عدد من مفردات التواصل في لغات المشاركين في الورشة، وكان عدد هؤلاء الأخيرين (73) مشاركا ومشاركة من (28) دولة غالبيتها من دول أمريكا الجنوبية وأفريقيا فيما اقتصرت مشاركة العرب على أربع دول هي: لبنان، والأردن، والبحرين، إضافة إلى بلدي فلسطين.
الصينية التي أشرت إليها تطلق على نفسها اسم (تيا)، وكانت كثيرة السؤال عن معاني الكلمات، وفي كثير من الأحيان لاحظت أنها تكرر ترداد تلك الكلمات كي لا تنساها.. ومع ذلك، كانت (تيا) الباسمة دائما، تعمل مع زميلاتها وزملائها الآخرين من المشرفين على الورشة كخلية نحل.. كانوا يحرصون على راحة هذا العدد الكبير من ضيوفهم: يجيبون على أسئلة كل واحد منهم بترحاب واهتمام، ولا يتأففون.
الإنسان الصيني
حتى في أحلك الظروف لم يتخل المضيفون الصينيون عن واجبهم تجاه ضيوفهم.. أذكر عندما سألت المشرف الرئيس على الورشة "كيف يفسر لي (الاشتراكية بالمعايير الصينية) علما أن معظم منشآت المنتجع الذي كنا نقيم فيه في (فوجو) تعود لأحد الأشخاص الذي تم وصفه لنا باعتباره صاحب مبادرة خلاقة استطاع بفضل مثابرته عمل نقلة في حياته وحياة سكان المنطقة؟".. حينذاك، لفت انتباهي المشرف إلى أن علي أن لا أنسى أن الأرض المقامة عليها تلك المشاريع لا تزال ملكا للدولة، وذكرني كذلك بنهج الدولة الصينية الذي يعتمد تشجيع ودعم المبادرات الفردية في تطوير الاقتصاد دون تخليها عن دورها في حماية المجتمع والفئات الأقل حظا فيه.
بصرف النظر عن تفاصيل النقاش الذي دار بيني وبين مضيفي الصيني ومآلاته، فإن ما لفتني هو اهتمامه بسؤالي والوقت الذي خصصه للإجابة عليه في وقت كان فيه منشغلا بتصفح ما على جهازه النقال من صور جاءته من وسط (فوجو) التي كانت يومها تتعرض لإعصار كبير.. قال لي إن صور المياه التي تغمر المنطقة وسط المدينة تجعل من بيته الموجود هناك محاصرا فيما هو موجود هنا معنا، يرد على أسئلتي وذهنه مشغول في أوضاع أسرته المحاصرة.
كان ذلك مثالا حيا على تفاني الإنسان الصيني؛ فالصبر والإصرار، والعمل ثم العمل، والإصغاء باحترام واهتمام، صفات وجدتها مشتركة لدى الصينيين خلال مرتين أتيح لي فيهما زيارة الصين، وحتى تاريخه لا يزال هذا البلد يغريني بمحاولة اكتشافه بقدر ما هو مبهم ومترامي الأطراف.
عندما وقع الإعصار يومها، شاهدت بأم عيني كيف تحرك الجيش الوطني الصيني وأجهزة الدفاع المدني، ومعهما طاقم كبير من الآليات، لوقف تدفق المياه التي اندفعت بقوة في طريقها تجرف التربة وتغرق الشوارع.. وفي هذه الأخيرة، الشوارع، استمر عمال النظافة وغيرهم، في إزالة تلال الأسمال التي تشكلت، ورفع كل ما جرفته المياه معها من أشجار طوحت بها الرياح العاتية. كان التحرك سريعا وفيه تصميم أظن أنه مستمد من مرارة التجربة التي اختبرها الشعب الصيني على مر التاريخ، ومن الثقافة والشخصية الصينيتين؛ فكما قرأت فإن كلمة "كارثة" في الصينية تتألف من حرفين: الأول يمثل الخطر، والثاني يمثل الفرصة.
مهمة شاقة.. ومبهمة
لم أجب حتى اللحظة- تذكروا – على السؤال الأهم "كيف كنت تتدبر أمورك مع الأكل؟".
ببساطة شديدة، لم يكن هذا الأمر مصدر مشكلة بالنسبة لي، بل لم يكن مدرجا على سلم اهتمامي خلال زيارتي للصين.. عدا ذلك، لم تعدم الفنادق هناك، في المرتين، وجود جناح خاص وأكلات خاصة تناسب في العادة الأجانب الذين يزورون هذا البلد، ما مكنني من تدبر أموري.
كان الشيء المهم عندي، في الزيارتين، هو محاولة معرفة كيف تسير الأمور في الصين: هذا البلد الشاسع المساحة، والمأهول سكانيا، ورغم ذلك يشهد كل يوم تطورا جديدا يجعل منه بلدا عظيما ومثالا يحتذى للتقليد وفهم ديناميكية التطور فيه.
نعم. حاولت مرارا استجماع أفكاري وتلخيص ما دونته من ملاحظات في محاولة مني للكتابة عن الصين، أو على الأقل ما عرفت، وشاهدت.. وفي كل مرة، دعوني أعترف، كنت أشعر أنني إزاء القيام بمهمة مستحيلة، أو بصدد البدء برحلة طويلة، وشاقة، ومجهولة النهاية.
نعم. إن محاولة الكتابة عن الصين أشبه ما تكون بمحاولة استكشاف عمق الغابات التي تكسو جبال مدن (فوجو، وشيامن، وشنجن، وكوانجو)، والتي حظيت بفرصة زيارتها خلال الفترة بين 1 و 21 أيلول من عام 2016.
وأنت تحاول استكشاف عمق تلك الغابات شبه الاستوائية في جنوب الصين الرطب، تجد نفسك تماما في مواجهة المجهول.
هذا ما حصل معي بينما كنا في طريقنا من (فوجو) متوجهين إلى (شيامن)، والأخيرة مدينة رئيسية في جنوب شرق الصين تطل على مضيق تايوان.. هطلت الأمطار يومها بغزارة؛ علما أن الشهر هو شهر أيلول.. وإذا كان "أيلول طرفه (آخره) مبلول" كما يقول المثل لدينا في فلسطين؛ فإن معظمه (مبلول) في جنوب الصين، فالأجواء هناك شبه استوائية وتسقط الأمطار بغزارة في الصيف، وتنبعث الرطوبة، ولا أمطار البتة في الشتاء عدا البرد القارص.
أما عن الغابات مترامية الأطراف التي شاهدتها في (فوجو) وغيرها من مدن الجنوب؛ فإنها من فعل الطبيعة التي حبت تلك المنطقة من الصين بجبال تتألف من التراب والرمل معا الأمر الذي جعلها أرضا خصبة لنو الأشجار الكثيفة.. ومع اتساع رقعة الغابات، وارتفاع الجبال، كانت شبكات الكهرباء وأعمدة الضغط العالي تخترق تلك المساحات وتصل إلى كل الأمكنة، ومعها كانت تمتد الجسور والأنفاق العملاقة لدرجة أن نفقا شق طريقه عميقا تحت مياه البحر في (شيامن).
وفي هذه المدينة الخلابة- شيامن- ناطحات السحاب من البنايات العملاقة، ومن خلف زجاج الطابق الرابع والخمسين في إحدى تلك الناطحات، وباستخدام تلسكوب خاص، أتيحت لي فرصة الاستمتاع برؤية (هونغ كونغ) التي ظهرت بعض أطرافها الجميلة تتحدث عن عظمة التجربة الصينية وقدرة الصينيين على مواكبة العصر دون التخلي عن موروثهم التاريخي والحضاري.
وفي (شيامن) أيضا، وتحديدا من حديقة طبيعية أقيمت على تماس مع أطراف مضيق تايوان، أتيح لي مجددا مشاهدة (هونغ كونغ)، لكن هذه المرة بعيني المجردتين.. وفي الوقت الذي سلب لبي منظر المراكب التي تجوب مياه المضيق، وأحسست برعشة تخفق بفؤادي، شعرت بغصة لعدم قدرتي على الوصول إلى هذه المدينة العملاقة حيث يعيش أحد أبناء أخي الأكبر بعد أن أنهى دراسة الدكتوراة، كما يعيش أخوه الثاني الذي كان لا يزال يدرس الماجستير.
الوقوف على تخوم المعرفة
وفي (شنجن)، وتعد من أكبر المناطق الاقتصادية الخاصة في الصين ودشنتها الحكومة الصينية عام 1981 لفتح اقتصاد البلاد على الاستثمارات الخارجية، أطلقت ساقي للريح لأستكشف معالم المدينة.. كان بصحبتي صديقي (علاء الجعبة)، ولم يكن هناك في الشوارع من أجنبي عدانا، وكانت الساعة تجاوز العاشرة ليلا والجو مليء برطوبة خانقة، ومع ذلك كان كل شيء يغري.. المطاعم التي تعج بالمرتادين.. والأكشاك التي تبيع المرطبات والوجبات السريعة.. ومع هؤلاء كان هناك الكثيرون الذين يجلسون فرادى أو زرافات على المقاعد التي تنتشر على طول الطرقات، يتسامرون.
قطعنا مسافات طويلة.. وكان (علاء) الذي حباني الله برفقته، على درجة عالية من الفطنة، ما جعلني غير آبه من الولوج أكثر في عمق المدينة، فقد كان يستذكر خط سيرنا بعلامات على الطرقات أو المحال كي نسترشد بها في طريق عودتنا إلى الفندق الذي نقيم فيه.
وبينما نحن مستغرقان في هذه الرحلة الليلية هبت عاصفة من المطر الغزير، وكنا نرتدي الملابس الصيفية، فأصبح كل منا كتلة تبللها المياه التي كانت تسح من ملابسنا كما الشلال.. والملفت أننا لم نحس بالبرد على الإطلاق.. وخلال ذلك لجأنا إلى مظلة قريبة بانتظار انقشاع العاصفة، ورغم مرور العديد من السيارات التي يمكن أن تقلنا إلى الفندق، آثرنا البقاء هناك لنتابع هذه الأمطار الصيفية.
كنت حينها - أذكر ذلك جيدا - مستغرقا في تأمل ذلك المنظر، الغريب/العجيب: مطر غزير ينهمر من السماء، كما السيل، دون أن أشعر بالبرد.. نعم. تذكرت. أنا الآن في جنوب الصين ولست في فلسطين. على أية حال انقشعت العاصفة وعدنا أدراجنا إلى الفندق، وبقيت في ذهني هذه المقاربة: المطر في الصين غريب كما الصين نفسها غريبة؛ فمهما تحاول استكشافها تجد نفسك على تخوم المعرفة.
المرأة الصينية.. والكونفوشوسية
بالعودة إلى (تيا) – المضيفة الصينية التي سبق وتحدثت عنها – فإنها، بالابتسامة التي تكسو محياها، وشعلة النشاط والحيوية التي تمثلها، ليست حالة منفردة في المجتمع الصيني.
غالبية من رأيتهم في الصين كانوا على تلك الهيئة؛ لذلك لا أستغرب أن تكون الصين منشأ المثل الشهير الذي يقول " من لا يستطيع الابتسام، يجب أن لا يفتح متجرا".
(تيا) نفسها، مثال حي على عظمة العديد من النساء الصينيات اللواتي يخرجن بالآلاف إلى سوق العمل، وتجدهن يعملن بطاقة عالية، تضاهي الرجال، وفي كل شيء، حتى في مشاريع تعبيد الطرق.
ومما هو ملفت في هذا الإطار أن معظم من يعملن في (المولات) تحديدا وفي غيرها من المتاجر الكبيرة في الصين، هن من النساء.. وفي كثير من هذه المحال لا تجد باعة سوى النساء.. يستقبلنك مبتسمات ولديهن قدرة باهرة في المفاوضة، ويتحلين بدرجة عالية من خفة الظل ودماثة الخلق.
لا يخلو الأمر من ثقافة سائدة تمتد جذورها إلى (كونفوشيوس) الذي أضحت فلسفته أشبه ما تكون بديانة أخرى، عدا الديانات السماوية الثلاثة المعروفة في العالم..
كان (كونغ كيو) أو (كونغ كي)، وهو (كونفوشيوس) نفسه، متقشفا في الملبس والمأكل، مولعا بالقراءة، وتقوم فلسفته على الدعوة إلى الأخلاق الحميدة؛ لذلك ليس غريبا على شعب نهل من تراث (الكونفوشوسية) أن يتحلى بصفات كالتي ذكرت.
قال (كونفوشيوس): قدموا بلادكم على أنفسكم، وقال أيضا " إذا لم يستطع شخص ما أن يغير العالم، فعليه أن يغير ما بداخله".. ومن أقواله كذلك " الكرم الحقيقي هو حب البشرية"، و " في الحب الحقيقي ليس هناك شر"، و " عندما يصبح الجو باردا فقط يقدّر الناس قوة أشجار الصنوبر".. أما أكثر ما لفتي فهو نبل أحد تلامذته، ويدعى (زيلو)، عندما أصر على الموت واقفا، سائرا بذلك على تعاليم أستاذه الذي قال " عندما يموت الرجل، يجب أن يحافظ على وقاره".
-------------
* كاتب وصحفي وباحث