الكتابة الإبداعية الحقيقية ليست خيارا، إنها طقس شفاء مما يعلق في أوردة الروح، يتبعه استرخاء مؤقت، واستعداد لتلقي شغبا آخر، صدمات أخرى، هواجس أخرى، خيانات وهزائم أخرى، تترك المبدع متحفزاً يقظا ويده على زناد الحرف، لهذا هي شفاء مؤقت من حالات الصرع التي تزور المبدع في لحظات لا يعلمها، صرع يرضخ له تاركا خيول المعاني تمر بصهيلها ورقصها، مستخدما مفردات تؤجج اندفاع سيقانها نحو مدى لا يعرفه، فيطلب النجدة من لا أحد، ويستطيب الاستسلام للجلبة، وحين يستفيق يقدم على تقديسها أو على تمزيقها.
وشروط هذه الكتابة وجود قضية بحجم السماء وحجم الخطيئة الأولى، يلهج بها كتعويذة، يرتلها كآية، ويعزفها مرة على وتر الجنون فيصبح المغني، ومرة على دف الذوبان فيصبح الصوفي، ومرة ثالثة على وسادة فجر فيصبح المولّه، ولا منجاة من هذه الكتابة إلا بالموت، ويبقى المبدع أسير اشتهاءاته وشبقه وأمنياته وتوقه، فيدّعي الطهارة والدعارة والنبوة، تتجلى حالاته في أمزجته المتداخلة، حتى يتهمه الآخرون بالانفصام، وعدم الواقعية.
إحساس المبدع بالحاجة إلى وطن، يعني أنه في، أو خارج وطنٍ مسلوب ومُستعمر وأسير، أو أنه في، أو خارج وطن محكوم بالبساطير وأحذية المستبدين والدكتاتوريين، مسلوب الإرادة والرأي والتعبير والحرية، أي أنه مُحتَلْ، وتحول إلى سلعة في أيدي تجار السياسة، وتلقائيا، تصبح الحاجة إلى وطن حاجة لامرأة، فيغرق في التجارب والانتقال من حضن إلى آخر، ويلجأ إلى الطاهرات والعاهرات والنبيلات والمؤمنات والكافرات والملحدات، بحثا عن حالة تليق بالفقد، تملأ فجواته، وفي الغالب الأعم لا يجد هذا الحضن الكامل المتكامل، فيقدم ويحجم، يفارق ويعود، يضحك بشكل هستيري ويبكي، ليعبر عن حاجة لا يدركها الآخر، لا الصديق المتصالح مع مواطنته، ولا المرأة غير المتصالحة مع أنوثتها، ولهذا يصبح الوطن رديفا للأنوثة الحلم، التي تُبكي المبدع لمجرد تلفظها بعبارة حنونة وحانية.
الفقد هو قضية المبدع الكبرى، فراغ الروح الذي لا تعمّره كلمات مؤمن يردد آيات كما يتردد على وجباتها الخمس، ولا تعمرها امرأة عابرة تمنح جسدها كآلة، ولا مال وفير يزيد مساحات فراغه، إنه الفقد الذي يمضي عمره كله في الكتابة عنه، دون أن يحقق جزءًا ضئيلا منه، هو الذي يقوده إلى العبث والكوميديا السوداء، وإلى الفظاظة أحيانا، ويصبح تنظيره أكبر من إبداعه، ويدعي أنه يعيد ترتيب الوجود، ويعيد تشكيل المشهد، يغرق في وهم اللغة راضيا مرضيا.
المبدع الحقيقي يعيش مأزقا قد يقوده، إذا ما تضخّم وتورّم، إما إلى الانتحار فيشخص أطباء النفس حالته بأنه وصل إلى أعلى درجات اليأس، ويحكم عليه المؤمنون بالكافر، لأنه قتل نفسه، أو يلجأ إلى الإدمان على المخدرات ليخلق عوالم لا تجسدها الحروف، فيتهمه المصلحون الاجتماعيون بالانحراف والابتذال، وهو في الحالتين غير يائس ولا منحرف، ولكن ضاق مأزقه الوجودي والوطني والعاطفي حتى خنق روحه.
لا لوم على مبدع يستخدم مفردات نابية في نصوصه، ولا لوم على مبدعة تلجأ إلى مفردات الجنس في نصوصها، فالأول ليس داعراً، والثانية ليست عاهرة، وإنما بلغ الفقد الحلقوم، وبلغ المأزق الجنون، ولا بد من تفريغ كي يواصل القلب ضخ الدم في شرايين الآخرة.
أحاول الآن أن أتمثل حالة الذي يحيط جسده بحزام ناسف، ويذهب لتفجير نفسه، ولا يطمح بالجنة.