بعينينِ طافحتينِ بشيءٍ من الخوفِ
أمشي على الشوكِ حافيةً بينَ نَصلينِ
مسكونةً في خطايا المعاني،
وأخطو كطفلٍ رضيعٍ على الأرضِ
والأرضُ مفروشةٌ بالحصى،
صدى صوتِ داعيةٍ في الخفاءِ يشي بي،
وأمّي، تنامُ، وتصحو
على قلقٍ من خفايا الغيوبِ عليّ،
وينقرُ رأسي الضجيجُ الذي يُجهِدُ الروح...
طريقٌ تفيضُ بأمكنةٍ لا سقوفَ لها،
تقودُ الخطى للفضاءِ البعيدِ،
ولمّا أطلُّ عليها تضيقُ
ويهربُ مني المكان،
ويخنقُ روحي الزّمانُ
العصافيرُ تفتحُ نافذةً للصباحِ
فتصحو المدينةُ غارقةً بالحكاياتِ عن كلِّ شيء،
نطلُّ على جدولِ الماءِ
بينَ البساتينِ
نرمي الحصى ذاتَ عصرٍ
لنقرأ طالعَنا في انزياحِ البراءةِ نحو الشقاوة،
ولكنّ ذاكَ الغلامَ الذي أيقظَ القلبَ في وردةٍ
نبتت بين جدرانِ قلبي
يلوّنها زهرُ قرنِ الغزالِ
رمى بي وراءَ جدارٍ تحَصّنَ بالخوفِ
ثمّ اختفى بالزّحام...
***************
على كتفينِ من الصخرِ تجثو المدينةُ،
تزحفُ صوبَ الينابيعِ
تبني صوامعَها من حجارةِ صمتٍ لنبعثَ فيها الحياةَ
الزوايا تخبئُ في بطنِها ما نَسُرُّ لها من هوى
فيفضَحُنا الارتباكُ
ونحنُ نرتّبُ أشياءَنا في ثنايا البيوتْ...
بيوتٌ معلّقةٌ بالهواء،
بيوتٌ بلا شُرفات،
وقاماتنا لا تطالُ النوافذَ،
نحلمُ في نسمةٍ قدْ ترطّبُ هذا الجفافْ،
تطيّرُ خصلةَ شعرٍ نما في الخفاءِ
أمامَ عيونِ فتى قد نصادفُه في الطريق،
نراهُ على سطحِ بيتٍ قريبٍ
يطيّرُ طائرةً من قصاصاتِ أحلامِنا،
ونسعدُ في لحظةِ الانفعال الجميل...
نساءٌ يُكَحِلنَ أيامهنَّ بضوءٍ تسلّلَ من عتمةِ الليل،
يحكنَ الخيالاتِ عن نسوةٍ يختبئنَ وراءَ الخِمار...
ويعجنَّ تحتَ عيونِ الرجالِ، وهم غائبونَ، مصائِرَنا،
والرجال الذين يعودونَ بعدَ المغيبِ
وهم مثقلون بهمّ الحياةِ
تقلّبِ وجهِ البلاد،
على ورق باهتٍ
يكتبون تفاصيلَ أيامِنا في سكوت،
ونسألُ عن سرِّ هذا السقوطِ،
وهذا الظلام...
***************
أنام وأصحو،
وأنظرُ حولي،
أراني مقيَّدةَ الرّوحِ
أسمعُ صوتي تردّد في بَحّةِ النايّ،
تحومُ الفراشاتُ حولي
وضوءُ المصابيحِ يخفُتُ،
تبعدُ، ثمّ تعودُ، وتبعدُ،
ضوءٌ تسلّلَ بينَ الشقوقِ
وصوتٌ غريبٌ تردّدَ بينَ البيوتِ،
أتى من مكانٍ خفيّ،
على البابِ أنقرُ
لا.. لا أحد...
ضبابٌ يغطي زجاجَ النوافذِ خلفَ الستائرِ
يحجبُ عني رؤاي،
دروبٌ معلقةٌ بالهواء،
رياحٌ تزيحُ خطانا عن الطرقاتِ،
فأدخلُ في رحلةِ التيه،
أرسمُ في الليلِ صورةَ حلمٍ نما في الظلامِ
تحَصَّن في عزلةِ الذاتِ
أُسِقِطُ من فوقِ جدرانِ قلبي
خيالاتِ طفلٍ تمرّسَ بالحزنِ
أخْرجُ مني عليّ
وأمسكُ في لحظةٍ شاغلتني في المنام...
***************
تمرّستُ بالحزنِ حتى انغماسي بأوجاعِهِ الخانقة،
أنا مَنْ تعمّدتُ بالحزنِ
كان البكاءُ صلاتي
يلاحقني الموتُ
يخطفُ مني الأحبّةَ في غفلةٍ
يذهبونَ إلى حيثُ شاءوا
ويقهرني الصّمتُ
أهربُ مني إليّ
أشيّدُ صومعةً من ظلالِ الخيالاتِ
من عزلتي أحتمي في سماءٍ
تعكّرُ صفوَ فضائي
وفي قصبٍ لا يظللُ روحي،
خطى جدولِ الماءِ تحملني مثلَ طيرٍ جريح
أحاولُ، أنهضُ، أكبوا
أجاهدُ في أن أحلّقَ، أسألُ:
هل أحتمي في ظلالِ الأحبةِ في موتِهم ؟!
هلْ يسمعونَ ندائي،
وهذا النشيجَ، نشيجي ؟!
أأحفرُ أسماءَهم في مرايا جدارِ الغيابِ الطويلِ
على جذع زيتونة في الكرومِ،
لتخضرَّ أغصانُهم ورقاً وارفاً في فضاءِ البلادِ
فيخضَرُّ صوتي ؟!
وأكتبُ هذا النشيدَ الطويل على صفحةٍ من رخام...
***************
على صخرةٍ عَلَقَت في فضاءِ المدينةِ
نحفِرُ أسماءَنا بارتيابٍ شديد،
ونحلمُ في أن نكون...
سأصعدُ وحدي الجبل،
وأبعث روحي الأسيرةَ
أنفضُ عنها الغبارَ الذي كوّمتهُ العشيرةُ
أهدمُ خلفَ الجدارِ السّميكِ جداراً
بناهُ لنا الأولونَ على كومةٍ من ركامِ الأساطير،
كساهُ الصقيعُ بروحِ المكانِ
على حفنةٍ من غبار السنين
الصقيعُ يجمّدُ قلبي
ويأسرني الخوفُ
تشعلُني رغبةٌ بالتحدّي،
ضبابُ المدينةِ يحجبُ عني الفضاءَ الفسيح،
الشوارعُ محشوّةٌ بالمقاهي،
تدور النمائمُ بينَ المقاعدِ
تفردُ أجنحةً في دخانِ النراجيلِ
وهي تدورُ مُحلّقةً في جناحيّ غيمة،
ولمّا تحلُّ على مجلسٍ عائليّ
تحاصرنا أعينُ الشكِّ في أن نكون الحكاية..
أحاولُ أن أكسرَ الصّمتَ
أفتحُ نافذةً للسّماء،
أطلُّ على قمرٍ قد يضيءُ طريقي
فيهربُ مني،
وتهربُ مني الطريقُ،
فأهربُ نحوَ الأمام...
***************
على غيمةٍ لامست صخرَ جرزيمَ
كنتُ كتبتُ قصيدةَ حبِّ طويلة،
وفي رهبةِ الخطوةِ البكرِ
أسأل نجماً تثاقل قبلَ الصعودِ إلى المنتهى:
أتهطلُ منها الحروفُ،
وتُزهرُ في تربةٍ خضّبتها الدماءُ
شقائقَ نعمانَ فوقَ التلالِ الخصيبةِ،
أم أنّها سوف تعبرُ نحوَ الصحارى،
تجفُّ، وتذوي؟!
صخورٌ مدبّبةٌ،
شفا حفرةٍ في الطريقِ إلى قمةٍ فوقَ عيبالَ،
سِرْتُ بخوفٍ على جرفِ وادٍ سحيقْ،
وراءَ نوازعِ روحي مشيتُ
أفتّشُ عني
وعن نجمةٍ أُخفِيَت في فناءِ الحديقة،
سأصعدُ نحوَ النهاياتِ
في القمم العالياتِ
وأبني من الصّخرِ كوخاً
يطلُّ على مدنٍ لا أراها،
أرى ضوءَها في عيونِ اليمام...
***************
أنام وأصحو على حلمٍ من زبَد،
ثلاثُ عيونِ مياهٍ تدفّقنَ فيّ،
كتابٌ قديمٌ على الرّفِ انفضُ عنه الغبار،
شقيقٌ لروحي،
وإنْ غابَ عني بغمضةِ عينٍ،
تغرّس فيّ،
وسجنٌ تعالى عليّ...
أحطّمُ قضبانَهُ كي أكونَ أنا
يضيقُ المكانُ،
فأفتحُ نافذةً كي تطلَّ على مدنٍ أشتهيها
فتفتحُ أذرعَها لي جناحينِ صارا طليقينْ،
أحلّقُ في سربِ طيرٍ على صهوة الرّيح،
غيم تكاثرَ، برقٌ، فرعدٌ،
وكان المطر،
وكنتُ أنا في انفعالاتِ سرب الغمام...
***************
أنام وأصحو
يفيضُ عليّ من الشرقِ نهرٌ مُقَدَّس،
إذا حلّتْ الظلماتُ يضيءُ طريقي،
وفي الغربِ بحرٌ،
تُضاءُ شواطئُه من منارات يافا،
إذا ضاقت الأرضُ كنتُ ألُوذُ إليهِ،
وفي القلبِ سيّدةٌ للمدائنِ
تفتحُ نافذةً للسماءِ
إذا ما اعترتني الشكوكُ
تُطهِّرُ روحي،
أنام، تراودني في المنام خيالاتُ نجمٍ تهاوى،
فَيُقْبَضُ قلبي،
أرى وردةَ الياسمينِ الدمشقيِّ تذبلُ
والغيمُ يهطلُ فوقَ الحديقةِ،
أسمعُ سربَ الحمامِ على أنّة النّاي يَدمعُ،
أصرخُ، أصحو،
أناجي بصوتٍ خفيضٍ إلهي:
أيا زارعَ الأنبياءِ بأرضِ الرّسالاتِ ارأفْ بحالي،
بلادي التي أثقلتها حروبُ الغزاة،
بلادي التي سقطت مرتينِ أمامي
تُبَدَّلُ أسماؤها في لغاتٍ غريبة،
تُغيَّرُ ألوانُها في خطوطٍ كئيبة،
فاصمتُ في بحرِ حزني العميقِ أمامَ الضياعِ،
وأبحثُ عن مخرجٍ
نفقٌ معتمٌ، والطريقُ تطولُ،
خيوطُ المتاهةِ تأسرُ روحي،
فأغرقُ بالصّمتِ،
أكسر صمتي
وأكتبُ ألفَ قصيدةِ حُبٍّ تعانقُ روحي،
تطوفُ البلاد،
وتغسلُ دمعَ الحمام ...
_____________________
تشرين ثاني (نوفمبر) 2017