ترجمة الحدث – عصمت منصور
قرار اغتيال صلاح شحادة صدر من قبل لجنة "الثلاثة" التي ضمت رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون ووزير الخارجية شمعون بيرس ووزير الجيش فؤاد بن اليعزر.
القرار قدم للجنة من أجل المصادقة عليه من أعلى مستوى بسبب الدور المركزي الذي لعبه صلاح شحادة داخل حركة حماس؛ حيث شغل موقع قائد الجناح العسكري للتنظيم في القطاع والمرشح الأبرز لخلافة الشهيد أحمد ياسين كمرجع روحي للحركة، إلى جانب أنه كان الموجه الفعلي الذي أشرف على تنفيذ أخطر العمليات ضد إسرائيل.
شحادة لم يكن العقل المدبر فقط لهذه العمليات، بل أيضًا هو من ربط حركة حماس بإيران، وجلب تمويلاً من أجل اقتناء السلاح والأهم من ذلك أنه كان وراء فكرة إنتاج وتطوير الصواريخ واستخدامها لضرب المستوطنات، وهذا ما جعله يتربع على رأس قائمة المطلوبين للشاباك الإسرائيلي.
صلاح شحادة جمع بشكل نادر بين كونه شيخًا ومرجعية دينية، وبين قدراته الفذة كقائد عسكري، وكان يصرّ أن يكون متدخلاً بشكل شخصي ومباشر في التخطيط للعمليات ضد إسرائيل، والتي قتل في إحداها خمسة إسرائيليين في عتصمونا، وقتل أربعة جنود في معسكر افريكا قرب الحدود مع القطاع، بالإضافة لقائمة طويلة من العمليات ما جعل مسؤول قسم العمليات في جيش الاحتلال العميد دان هرئيل يقول بثقة أنّ يديه تلطخت بدماء مئات الإسرائيليين.
صلاح الدين علي شحادة ولد في غزة، وتحديدًا في مخيم الشاطئ للاجئين، في العام 1952 درس المرحلة الابتدائية في مدارس الأونروا التابعة للأمم المتحدة؛ لينتقل بعدها إلى الإسكندرية في مصر لدراسة علم الاجتماع، وهناك تقرّب من جماعة الإخوان المسلمين في جامعة القاهرة.
بعد عودته إلى غزة انضم شحادة إلى الجماعة الاسلامية وباشر العمل المناهض لإسرائيل وهو ما قاد لاعتقاله أول مرة في عام 1984، حيث مكث في السجن سنتين ونصف السنة إداريًّا دون محاكمة.
بعد تحرره انضم للمجموعة الأولى المؤسسة لحركة حماس في القطاع التي أعلنت عن انطلاقتها مع اندلاع الانتفاضة الأولى، حيث أصبح المسؤول المباشر عن الجناح العسكري شمال القطاع والمساعد المباشر للشيخ أحمد ياسين.
في عام 1988 اعتقل مرة أخرى، ولكنه واصل العمل من داخل الأسر وواصل إعطاء التعليمات للخلية التي خطفت وقتلت الجنديين افي سسبورتس وايلان سعدون. بعد عامين تحرر من الأسر وحاول أن يبتعد عن العمل العسكري المباشر؛ لأن الشاباك هدده مباشرة، وهو خارج من سجن بئر السبع، وأخذ منه تعهدًا بعدم اللجوء إلى العمل العسكري، وهو التعهد الذي صمد لسبعة شهور فقط ليتسلم بعدها قيادة الجناح العسكري للتنظيم مع اندلاع الانتفاضة الأولى.
شحادة تحول إلى هدف للاغتيال دون أن ينتاب أحدًا سواء في المستوى السياسي أو العسكري أيُّ شك في ذلك، حيث ورد في التقرير الخاص الذي قدم لرئيس الوزراء حول نشاط صلاح شحادة أنه "القوة المحركة الفكري والعملي في تخطيط وتنفيذ العمليات ضد إسرائيل، وهو ما يلزم إسرائيل اتخاذ خطوات فعالة وفورية لإيقافه.
شدد الشاباك من إجراءاته لتعقب شحادة من أجل اختيار المكان المناسب لتنفيذ الاغتيال، حيث اتضح أنَّ هذه مهمة ليست سهلة على الإطلاق؛ لأنه كان يغير مكان إقامته باستمرار، وقلل من ظهوره العلني وعدم المبيت في البيت ليلتين متواصلتين، وفوق ذلك كان هناك حاجز بشري يعقّد المهمة متمثل بأولاده وزوجته.
في نهاية المطاف نجح الشاباك في الوصول إلى المكان الذي يختفى فيه، ولكن إمكانية اغتياله كانت إشكالية؛ لأنه لم يكن يختبئ في مكان نظيف وخالٍ من السكان، بحيث يمكن قصفه من الجو بصاروخ دون إيقاع خسائر في الأبرياء.
في شهر تموز 2002 تم رصد مكان يوجد فيه شحادة، والمكان عبارة عن شقة سرية في حي الدرج. المعلومة وصلت لقيادة الشاباك وبدأت بدراسة إمكانية إرسال قوة برية لتصفيته، حتى لو تطلّب الأمر مواجهة وجهًا لوجه، وهو ما بدأ التحضير له، ولكن قبل أن تنجز التحضيرات استطاع أن يفلت مرة أخرى، وأن يغير مكان إقامته.
المكان الجديد الذي قرر شحادة أن يختبئ فيهه كان في عمارة من طابقين اختار أن يسكن الطابق الأرضي فيها. الشاباك أدرك هذه المرة أنه لا مناص من اغتياله من الجو، بواسطة قذيفة كبيرة قادرة على تدمير واختراق الطابق العلوي والنفاذ إلى الطابق السفلي، وقتل شحادة بشكل أكيد، وهي العملية التي أطلق عليها اسم (دجلان).
جيش الاحتلال وطواقم الشاباك أجروا نقاشات مطولة حول نوع القنبلة التي سيتم قصف شحادة بها. من جهة أخرى قام سلاح الجو بتجربة أنواع من القذائف على مبانٍ من طابقين لمطابقة مدى الضرر والقدرة على قتل من في الطابق الأول والأثر على المباني المجاورة.
في نهاية الأمر، وبعد إجراء التجارب والحسابات المطلوبة والأخذ بالاعتبار أنَّ الاغتيال سوف يؤدي إلى قتل آخرين تقرر استخدام قنبلة من نوع "زرعيم" تزن طنًّا، يتمُّ إطلاقها بواسطة طائرة إف 16.
بعد اتخاذ القرار نشب جدال حاد بين افي ديختر رئيس الشاباك وبين نائبه يوفال ديسكين حول وزن القذيفة، حيث اعتقد ديسكن ومعه جزء من قادة الشاباك أنَّ هذا الوزن سوف يوقع عددًا كبيرًا من الضحايا المدنيين، بينما تمسك ديختر برأيه؛ لأنه عدّ أنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستضمن أنه لن يخرج حيًّا.
وهذا بالفعل ما حصل، حيث في 22 يوليو 2002، وصلت معلومة تفيد أنَّ صلاح شحادة موجود في بيته مع زوجته دون وجود أطفال آخرين في المنزل.
لجنة الثلاثة أجرت مشاورات تلفونية وصادقت على الاغتيال معتقدة أنَّ هناك إمكانية متدنية أن يُقتل آخرون.
طائرتان حربيتان حلقتا في الأجواء بهدف إنجاز المهمة، الأولى أطلقت قذيفة بوزن طنٍّ باتجاه المنزل؛ ما أدى إلى هدمه بالكامل، واستشهاد صلاح شحادة وزوجته وابنته ومساعده الخاص، بالإضافة إلى استشهاد 13 مواطنًا آخر من السكان والمارة، بينهم ثمانية أطفال ممن يسكنون في المنزل المجاور، هذا بالإضافة إلى إصابة ما لا يقل عن مئة شخص.
رئيس الوزراء أرئيل شارون قال بعد القصف: إنَّ العملية التي أدت إلى تصفية شحادة تعدّ من العمليات الناجحة جدًّا التي قام بها جيش الاحتلال حتى الآن مضيفًا أنه لن يكون هناك أيّ حلول وسط في الحرب على "الإرهاب" الموجه ضد إسرائيل.
إلا أنَّ الاغتيال الذي تسبب في مقتل أبرياء أثار ضجة كبيرة في أوساط الرأي العام الدولي، وأدى إلى المطالبة بتسليم الطيارين الذين نفذوا الجريمة بحق الأبرياء العزل من أجل محاكمتهم في المحكمة الدولية بتهمة تنفيذ أوامر غير قانونية.
صحيفة هآرتس الإسرائيلية أجرت مقابلة مع دان حالوتس قائد سلاح الجو الإسرائيلي في تلك الأثناء، وهو الذي تصدى للدفاع عن الطيارين، حيث أجاب على سؤال حول شعوره عن شعور الطيار عندما يلقي قنبلة وزنها طنّ على بيت مدني مأهول، حيث قال: رجة خفيفة في جناح الطائرة. وهي الإجابة التي أثارت موجة من الانتقادات في إسرائيل والعالم، وقادت إلى ظهور ما أطلق عليها رسالة الطيارين التي وقع عليها 27 طيارًا من الاحتياط، وأعلنوا فيها أنهم لن يشاركوا بعد اليوم في طلعات جوية في الأراضي المحتلة، وقالوا: إننا تربينا على حبّ دولة إسرائيل والصهيونية، نرفض أن نشارك في القصف الذي ينفذه سلاح الجو ضد المدنيين، وإننا إذ نعدّ أنَّ جيش إسرائيل وسلاح الجو جزء عضوي من كياننا نرفض مواصلة المس بالمواطنين العزل.
العاصفة التي خلفها الاغتيال تجاوزت حدود إسرائيل، حيث طلبت حركة يش جبول من المحكمة العليا التحقيق في ظروف الاغتيال، وتقدمت بالتماس لمحكمة بريطانية للتحقيق مع رئيس أركان جيش الاحتلال دان حالوتس ورئيس الأركان السابق الذي كان مسؤولاً عن الجيش في وقت الاغتيال بوجي يعالون بتهمة التسبب بقتل أبرياء ومحاسبتهم على جريمتهما. إسبانيا أيضًا قررت عبر إحدى محاكمها تقديم لائحة اتهام ضد سبعة مسؤولين إسرائيليين اشتركوا في اتخاذ القرار تتهمهم بالتورط في جرائم ضد الإنسانية.
المحكمة العليا الإسرائيلية تولت الملف الذي تقدم به مواطنون، وطالبوا بفتح تحقيق جنائي ضد قادة الجيش المتورطين في الاغتيال، وهو ما دفع النيابة إلى الإعلان عن تشكيل لجنة تقصي حقائق لفحص ظروف مقتل مواطنين أبرياء أثناء تنفيذ عملية الاغتيال.
اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء ايهود أولمرت برئاسة المحامي العسكري العميد عنبار قدمت توصياتها في 2011، حيث أشارت إلى الحماس الزائد الذي رافق عملية اتخاذ القرار عادَّة أنَّ القرار كان خاطئًا، ولم يأخذ بالاعتبار مقتل المدنيين؛ لأنه ركّز على التحرك الفوري لاغتيال صلاح شحادة.
اللجنة لم توصِ بمحاكمة المتورطين، ولكنها طالبت بأن يتم أخذ العبر والالتفات إلى المدنيين، وعدم تنفيذ طلعات غير شرعية إذا كانت تعرّض حياة المدنيين للخطر.
بالإضافة لقرار اللجنة الخاصة طلبت المحكمة العليا في إسرائيل من رئيس الأركان دان حالوتس إيضاح موقفه، حيث كتب قائلاً: إنَّه حزين لمقتل أطفال أبرياء ومواطنين بلا ذنب نتيجة الاغتيال، وهو يأسف لهذا، مضيفًا إنه لو كان هو ومن شاركه في اتخاذ قرار الاغتيال يعرف أنَّ هذا ما سوف يحدث لما كانوا صادقوا عليه.
بدوره قال الطيار الذي ألقى القنبلة على المنزل: إنه لو امتلك معلومات استخباراتية تفيد بأنَّ هناك شيئًا ممنوعًا "ما كنت نفذت المهمة"، لكن ما أن أقلع في الطائرة حتى تحوّل إلى آلة تنفذ الأوامر.
في الحلقة القادمة من كتاب الاغتيال كواليس اغتيال مؤسس حركة حماس الشهيد أحمد ياسين.