1.
لا تخفى على باحث أو مطّلع على تاريخ الأديان علاقة رجل الدين بالسلطة السياسية، سواء في المثال الكنسي قديما، أو في أنموذج الفقيه الإسلامي، منذ تأسس الفقه، إلى اليوم. وإذ يظهر لنا التاريخ الرسمي للطوائف أنّ السياسي كان يستأنس بآراء رجل الدين ويأخذ بنصيحته، يكشف لنا التنقيب عن علاقة أخرى هي كون الفقيه أداة في يد السياسي لتوجيه الرأي العام نحو قناعات دينية تخدم أولا وأخيرا بقاء السلطة ومن أمثلتها ترسيخ فكرة عدم الخروج عن وليّ الأمر، بل رفعها إلى درجة العقيدة.
2.
نتيجة لهذه العلاقة يظل المعنى الديني مترحّلا وإن أوحى الفقيه بثباته، بل وإن سعى إلى تسفيه وإلغاء أي صوت يقول بتغيّره. والنتيجة بعد قرون هي تعدد الخطابات الدينية وتصارعها كتابة وواقعا: أتحدث عن التكفير والاغتيال. ونتيجة لهذا الصراع ظل الدم لون المكان في الخارطة الإسلامية من معركة صفين إلى آخر عمل إرهابي اليوم. والخاسر في كل هذا بطبيعة الحال هو الإنسان، والرابح الأكبر هو السياسي أولا لأن رجال الدين كانوا ولا يزالون خدمه المخلص وعسسه الذي يضمن له الولاء السياسي للناس بإيهامهم أن ذلك ولاء للدين.
3.
ومثلما قدس الفقيه شخص السياسي بالزعم أنه مختار من السماء وأن الله ولاه على الناس، هذا ما يسمى بالحق الإلهي في الحكم؛ قدس كذلك شخصه هو، وصار أي نقد للفقه كأنه نقد للدين، وأشاع بين الناس أن لحوم علماء الدين مسمومة، بمعنى أنه لا يمكن الخوض في آرائهم ونقاشها، بل أوجب التسليم بها فقط.
4.
من هذا التفكير أنتج الفقيه ثنائية خطيرة جدا: النقل والعقل. وإذ تم تقديس النقل الذي يقوم به الفقيه مما يراه صحيحا في المتون؛ تم تدنيس العقل وتقييده واعتباره عاجزا عن الفهم والتحليل رغم أن هذه من آلياته ومكوّناته الأساسية. وبهذه الثنائية أنتج الفقهاء تعريفا للعقل ينهل من معناه اللغوي المأخوذ أصلا من العقال أي القيد، وابتكروا مقولة غريبة أيضا تقضي أن العقل الصحيح هو ما يوافق النقل الصحيح. بهذا قضوا على الحرية وأعلنوا أنفسهم بوليسا ربانيا وحماة للمعنى الإلهي الذي يتصورونه هم ويخدم بالأساس بقاء السلطة السياسية.
5.
من هذا المسار التاريخي لعلاقة الفقيه بالسلطة وخدمته لها، مثلت السعودية في العقود الماضية هذا الالتحام الغريب بين الديني والسياسي، وكانت نتيجته قاسية على الإنسان (حد الردة، قطع اليد، الرجم، معاداة الطوائف الأخرى...). ولعل هذا التوافق صنع خطابا سياسيا أحادي الرؤية، يجعل البشر يقدمون الطاعة والولاء للديني الذي هو في جوهره سياسي خالص.
6.
حين نرى الآن إلى التغييرات التي حدثت في السعودية، وكر الفكر الوهابي العنيف والتكفيري؛ وعلاقتها بزيارة الرئيس الأمريكي ترامب الذي غير على ما يبدو أفكارا جامدة منذ قرون؛ يتبدى لنا أن الملك السعودي وافق على التغيير ربما للأسباب التالية:
تبييض وجه السلطة السعودية وغسل يدها من الدماء التي أزهقتها.
التغطية على دعم الفكر الوهابي للإرهاب وتأسسه على الأحادية ورفض الآخر والتكفير.
في التغيير مصالح خارجية وأخرى داخلية محضة.
7.
بطبيعة الحال، مهما تكن أسباب هذا التغيير فالمستفيد هو الإنسان السعودي خاصة، والعربي عموما الذي كان عرضة للهجوم الوهابي وغسل الأدمغة بهذا الفكر في مختلف الدول التي دين أفرادها الغالب هو الإسلام.
8.
في مثال السعودية الأخير يتجلى بوضوح تام دور الفقيه؛ لا باعتباره الحريص على شؤون الأمة كما يدعي، ولكن كونه الأداة الدينية التي تقدم للسياسي التبريرات لاختياراته سواء كانت ضد الإنسان أو معه. وقد قال صوفي مجهول قديما: "إذا رأيتم عالما بباب سلطان فاعلموا أنه لص".
9.
إن ما حدث في السعودية من تأييد لخيارات الملك الجديدة، والتي هي في صالح الإنسان السعودي مهما كانت أسبابها، كشف القناع عن رجال الدين، وأوضح دورهم السياسي الذي يتقنّع بالطهارة والنقاء وهو في العمق يتحرك وفق إرادة السلطة ومصالحها.
10.
هل نحتاج إلى فقيه أيها القارئ؟ هل نحتاج إلى رجال دين دورهم عبر التاريخ كان التبرير للسلطة الحاكمة؟ هل حان الوقت لكي يتوقف الفقيه عن التدخل في الشؤون العامة والخاصة للناس؟؟؟
الإجابة أتركها لك يا صديقي القارئ..