حين نتحدث عن النكبة الكبرى أو النكسة، وما تلاهما من تطوّرات يغلب عليها الهزائم، ننحو دائما إلى التركيز على الأسباب الخارجية والثانوية، كتآمر الأنظمة العربية، ومؤامرات الاستعمار، وفساد الأسلحة وقلة العتاد، متجاهلين السبب الجوهري الذي مكّن تجمعًا استيطانيًّا طارئًا على هذه البلاد من هزيمة شعب عميق الجذور في هذه الأرض، وفوق ذلك لم يبخل يومًا في تقديم التضحيات.
أيُّ تحليل علمي وموضوعي لأسباب النكبة يكشف أنَّ موازين القوى كانت مختلة بشكل فادح للمشروع الصهيوني؛ لأنَّ مجتمعًا استيطانيًّا مسلحًا بالحداثة بكلِّ ما تشمله من أدوات ووسائل مادية وعسكرية ونظم إدارية وتنظيمات اجتماعية، واجه مجتمعًا متخلفًا محكومًا بأنظمة بدائية تنتمي للقرون الوسطى.
التخلّف ليس عيبًا أخلاقيًّا؛ لكي نخفيه أو نخجل من إبرازه وتحليله، فهو نتاج قرون من الاستبداد العثماني، وعقود قليلة، ولكنها قاسية جدًّا وحاسمة من الاستعمار البريطاني الذي كان راعيًا وحاضنًا للمشروع الكولونيالي.
في بداية مشروعهم لم يكن يهود الدول العربية من ضمن مخططات الصهاينة الذين جاء قادتهم وجمهورهم الرئيسي من وسط أوروبا وغربها، وحملوا معهم ثقافة أوروبا وقيمها، بما في ذلك التنظيم الدقيق، والتخطيط، والتعددية السياسية، والاهتمام بالعلم والبحث العلمي، وقيم الديمقراطية والمحاسبة ضمن المجتمع الصهيوني. لقد أسسوا الجامعة العبرية، ومعهد وايزمن والتخنيون والهستدروت والأحزاب وحركات الشبيبة والصحف وصناعة الماس ونواة الجيش الحديث قبل سنوات طويلة من إعلان الدولة / النكبة.
في المقابل، تميزت قيادة الشعب الفلسطيني بطابعها الإقطاعي الديني التي كانت تضيق ذرعًا بمعارضيها ومنتقديها، وتعتمد على الولاءات العائلية والعشائرية، ولا تثق بقدرات شعبها وضرورات تنظيمه وتسليحه. وكان رهانها الأساسي معلَّقًا على إمكانية استرضاء بريطانيا وغيرها من الدول الاستعمارية، وكانت الأمية متفشية على نطاق واسع وخاصة في الريف، وهذا نشأ عن نظام ملكية الأرض الذي حرم نسبة كبيرة جدًّا من الفلاحين من أيِّ ملكية، وأبقاها حكرًا على السادة الإقطاعيين من فلسطينيين وغيرهم بموجب نظام الامتيازات العثماني.
بفعل النكبة، انهارت القيادة التقليدية للشعب الفلسطيني فانكفأت على نفسها والتحق بعضها بركب الأنظمة العربية، وسببت النكبة صدمة عنيفة للوعي والثقافة الموروثة ما أنتج بالمحصلة وعيًا وثقافة جديدة مهدت لانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي انتشلت الشعب الفلسطيني من هاوية الشطب والتبديد، ولكنها وعلى الرغم من كلِّ تضحياتها وإنجازاتها لم تحمل معها عناصر التثوير والتغيير الجذري لثقافة المجتمع وقيمه.
وكما يحصل الآن على امتداد الدول العربية، أدى فشل وتعثر مشروع الدولة العربية الحديثة، وفشل التنمية ومشاريع النهضة، وانتشار القمع والاستبداد ومصادرة الحريات العامة إلى تراجع الهوية الوطنية والقومية للشعوب العربية، وانبعاث الهويات الجزئية الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية، وارتداد هذه المجتمعات إلى عهود ما قبل الاستقلال.
أمّا في فلسطين، وإزاء تعثر المشروع الوطني وتعقيداته، فإنَّ الخطر يبقى قائمًا لانحسار الهوية الوطنية، والارتداد إلى هويات جزئية محلية وعشائرية وجهوية. وثمة شواهد كثيرة تنذر بذلك من بينها ضعف ثقة الجماهير بالنظام السياسي بكلِّ مكوناته، وغياب ثقافة المواطنة، وتراجع قيم الشفافية والمساءلة، وانتكاس الحياة الديمقراطية والحريات العامة، وانتشار المحسوبيات والواسطة والفساد بمختلف أشكاله، وانتشار مظاهر الفهلوة والتنفيع والزبائنية، فضلاً عن تدنّي الاهتمام بالمشاركة في الحياة العامة والسياسية، بما في ذلك تراجع مشاركة المرأة والشباب، ولعلّ طبيعة الانتخابات المحلية الأخيرة مثال واضح على ذلك.
يمكن لنا أن نسرد عشرات الأمثلة على أنَّ ما يجري هو إعادة إنتاج للتخلف الذي كان مسؤولاً عن هزائمنا، وهو ما يعني المساهمة في إعادة إنتاج الهزيمة.