تلك هي روايتي. .. دورة حياة... من الولادة حتى الممات، والكثير الكثير من المنعطفات والصفعات الحارقات ...
بهذا بدأت الروائية منال الحسبان روايتها المثيرة للجدل، والتي حملت عنوان "شيء ما يحدث" ومع أنّ هذا الاحتفال بأهمية التشويق والحوار العفوي المدهش الذي لمسناه في الرواية يتجاوز مرورنا البصري عليه، فالعلاقات تتداخل والدلالات تقترض بعضها من دلالات سواها.
تدور الرواية حول الشخصية الرئيسة حنين، وما عانته من ذل وهوان من أقرب المربين لها هو والدها وزوجة أبيها.
يتم تزويجها من شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، لتبدأ معاناتها تتفاقم شيئًا فشيئاً عندما يزج بها إلى السجن، فتتوالى الأحداث بشكل مثير وشائق، فمن انخفاض إلى ارتفاع مفاجئ كالموسيقى تمامًا، فتتزوج
تهرب حنين نحو جارة قديمة هي أم راضي الطيبة التي تستقبلها وتأويها في بيتها المتواضع، على الرغم من فقرها المدقع، لتتوالى المفاجآت وتتفجر بزواجها من العم صادق، هذا الرجل الطيب الذي نذر حياته في مساعدة الفقراء كونه مقتدرًا، ويحمل تقدير واعتزاز الناس.
ترث حنين من زوجها صادق ثروة طائلة، ويبدأ أقرباؤه بمطالباتهم بالورثة، فيكيدوا المكائد لحنين، وتبدأ معاناة جديدة، ومكائد حتى من أقرب الناس لها وأعني أختها رؤى، التي تتفق مع زوجها بدس المخدرات في شركة حنين التجارية، وهكذا تهرب حنين نحو المجهول، وتبلغ الرواية ذروتها، بوفاة والدها وأختها رؤى وأم راضي، لتعود حنين إلى قصر زوجها صادق؛ لتقضيَ فيه بقية عمرها بعد أنْ شاخت واشتعل الرأس شيبًا.
" ثم أخذتْ سيارتها الفارهة عائدةً إلى قصر صادق؛ لتمكثَ به عمرها الباقي.
دخلتْ مكتبها، وجلست عليه مسكتْ أوراقها وأقلامها الملونة، وأخذت تنصتُ لسيمفونية الموج الغاضب، تراقبُ الستائرَ الحريرية البيضاء وهي تتطايرُ برقة، ما عادت تعنيها عقارب الساعة، فلا مللَ ولا ارتواء".
إنّ من مستلزمات الأداء الفني الجيد أن يتوافر في الرواية، منطق ترابطي (البنية التحتية) بحيث تكون الصور الوصفية المستخدمة مغذية للرواية بأنساق خفية، يتفاعلان في محيط الدائرة، حتى لا تتكدس الصور وتنفصل فيه عن جاذبية المركز الأساسي، وتهرب الرواية وتدور بها في فراغ يتشتت فيه كل شيء، حيث تكون الخطورة في ذلك الجولان الشبيه بجولان من يمشي في نومه، فيبتعد عن مأواه، وبالمثل تبتعد الصور عن المركز المشتت.
" وتساءلت هل يا ترى هل هي المحطة الأخيرة؟! "إلى أين أذهب، وماذا سأفعل الآن؟" تصرخ نفسها خائفة، فتجد الطريق لا زال ممتدًّا، تتنفس الصعداء، وتعود لمتابعته، تتمنى أن يطول، ربما شيء ما يحدث بعد حين، ربما تصير كالآخرين، تعرف محطتها جيدًا"
إنها صورة ذات صوغ خيالي مهيب، يستحيل ولا يجوز تجزئة كثافته المتواكبة، وهو تشكيل خلقته عبقرية جامحة، تستقطر من دفقة إبداع مثير للدهش وللذهول، تلك اصورة المصفاة والممتدة في كبرياء على ساحة التفصيلات الكثيفة.
إنّ رهافة التكوين الفني، ودقة الرؤية المتغورة لتفصيلات تتكاثر، ومشاهد تتلاحق بحيث تتمكن الروائية الدكتورة منال من لَمِّ شتاتها، وضم أجزائها لتتكاثف وتتضام وتتآلف، هذا كله شاهد على ميزة إبداعية لها تفرد وطاقة لا تُضاهى بأية طاقات أخرى.
"لم تكن حنين تحلم يومًا بأنْ تكون سندريلا... ترتدي ثوب أسطوري... وتمتطي حصانًا أبيض، ولم تكن تحلم أنْ تكون الأميرة النائمة، فيأتي الأمير من البلاد البعيدة لينقذها... فوحدها من تعلم حجم حزنها ومآسيها، لذا أغلقت باب الأحلام منذ زمن... فبات حلمها الوحيد العيش بأمان"
لقد تمكنتِ الروائية بمهارة من أنْ تستشفَ العلائق الحتمية بين أدائها الفني ودلالته الخفية وإيحاءاته الباطنة، إنها ترسم وتصور ولا تفسِّر.
"الآن ستجعل الزهور تتفتح وتضحك وتنشر عبيرها في الكون، ستنشر البذور على الأرض السوداء لتتبرعم وتورق، الآن ستقتل كل الأكف الباردة... وتجد دفء الحياة، ستساعد العصافير المختبئة لتعلو بعيدًا بعيدًا جدًّا.
كما أنَّ العلاقة في تضاعيف الحوارات المتوازنة بينها وبين السرد، تفترش ساحة اللوحة، فتتعدد ألوانها في تناسق، وتحتشد خطوطها في تراكب، وهي في ذلك تستكشف ذلك الوجود المستقر في الباطن الإنساني، وتستشف ما يصعُب فيه من مشاكل، وما يتوافق فيه من عواطف، وهو في ذلك يتفرد بتعريه ما يختبئ في سراديب الحياة اليومية.
" كان سحابة عابرة امتدت عليها وطافت بها كل الإرجاء... وهي غارقة بالصمت.... كان لفرحها باللقاء ضجيج برق ورعد.... كان الدفء يصلها قبل أن تقترب، فأين هو الآن؟
تركها مكبلة بالأحزان... ترمق سحب الصباح بشجن ...
لم يبقَ معها إلا الذاكرة والخيبة... تبحث عنه في وجوه المارة.... تصرخ من قمة الألم.... تستجدي ربها أنْ يوصِّلَ له سلامها".