كتب أحمد زكارنة
لا شكّ أنَّ قرار ترامب بشأن القدس، كان قراراً صادماً بالرغم من كونه قراراً متوقعاً، خاصة مع ترهل الحالة العربية من جهة، وتسابق بعض الأنظمة العربية للارتماء في الحضن الإسرائيلي من جهة ثانية، وانزواء أطراف ثالثة لأسباب متعددة.
ولكننا عادة ما نناقش ونتناول ما يخصنا من زاوية الربح والخسارة الواقعة علينا، فيما نغفل حقيقة أنَّ أية مقاربة سياسية لها طرفان، لكل منهما مكاسبه وخسائره التي لا يقل أهمية وحساسية كل منهما عن الآخر. في هذا السياق من المهم أن نحاول قراءة كلتا الحالتين لدى أطراف المعادلة الأخرى، والطرف الآخر هنا، هي الإدارة الأمريكية التي يرى البعض أن قرارها الأخير حول القدس إنما عاجل بالكثير من الخسائر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
النتائج الأولية لكل ما ذكر أعلاه، نجدها بوضوح كامل في محاولة حصد الإدارة الهادئة لرجل موسكو القوي بوتين، لهذا السقوط المريع لإدارة ترامب في المنطقة، وها نحن نتابعه يوقع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية في كل من مصر وتركيا في يوم واحد.
غير أنَّ صلابة الموقف الصارم من قبل الرئيس محمود عباس، والملك عبد الله فيما يخص الإعلان الأمريكي بشأن القدس، ورفضهما التسليم بهذا الإعلان أو التماهي معه، والتفاف الأسرة الدولية حولهما، فضلاً عن تفاعل الشارع العربي، إنما وضع الإدارة الأمريكية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تتخلى طواعية عن ملف رعاية العملية السلمية لصالح أطراف دولية أخرى، وهذا سيعمق نظرية تراجع الدور الأمريكي على المستويين الدولي والإقليمي، وقد يسهم بشكل متسارع في ظهور نظام دولي جديد لن تكون أمريكا هي المتفردة في مسرحه لا على المستوى السياسي ولا على الصعيد العسكري، وإما أن تتراجع سريعاً عن مواقفها الأخيرة في فلسطين ولبنان واليمن لتفتح نوافذ جديدة ستضطر معها للتخلي عن حلفائها التقليديين في المنطقة، خاصة تلك المتمثلة في وجوهها الجديدة "ابن سلمان في السعودية، وابن زايد في الإمارات".
الملاحظ في أزمتي رئيس وزراء لبنان وقرار القدس، أنَّ النظام المصري كان الأكثر توازنا واتزانا من الدول العربية الأخرى والأقل اندفاعاً في التورط سواء في الملف اللبناني، أو في محاولة جلد الفلسطيني، مما وفّر له مساحة تحرك مقبول على المستوى العربي من جهة، وباتجاه الروس من جهة أخرى، وهو ما نتج عنه اللقاء الثلاثي الذي جمع الرئيس السيسي مع نظريه الفلسطيني الرئيس عباس، والملك عبد الله للتباحث في سبل الرد العربي على القرار الأمريكي، والأمر ذاته نجده في زيارة بوتين للقاهرة، والحديث عن التعاون الروسي المصري في مشروع "الضبعة" النووي.
ختاماً: الأحداث الأخيرة المتسارعة في المنطقة، وخاصة قرار ترامب، قد يفيد عدة أطراف بشكل نسبي ومتفاوت، منها الطرفان التركي والإيراني على حساب الحليف السعودي، إضافة إلى ما ستحصده المملكة الأردنية من جراء موقفها الأقوى على الأقل في نظر الشارع العربي، والأهم سيكون لصالح الدبلوماسية الفلسطينية بما لم تكن تحلم به يوماً، باتجاه إعادة طرح القضية على الطاولة الدولية بشكل مختلف عما كان عليه الأمر قبل اتفاقيات أوسلو، ويخدم بشكل كبير المطالب الفلسطينية، وأهمها الإقرار بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، بالرغم من كون هذا الحل أيضاً لن يمكن الطرف الفلسطيني من تحصيل مطالبه العادلة كافة، وإنما الحد الأدنى منها لربما.
وعلى الجبهة الأمريكية، فإنَّ إعلان الرئيس ترامب "القدس عاصمة للدولة الإسرائيلية"، أعاد للقضية الفلسطينية حضورها على البعدين العربي والإسلامي، ما أدى إلى تأجيج مشاعر الغضب، واستنهض الشارعين العربي والإسلامي من أزماتهما الداخلية لصالح قضاياهما العقائدية والقومية، ما قد يُصنف يوم هذا الإعلان باليوم الأسود في تاريخ البيت الأبيض؛ ذلك لأنه لربما يكون القرار "القشّة التي قسمت ظهر البعير".