ترجمة الحدث- عصمت منصور
في 18 آب 2003 وصل استشهادي تابع لحركة حماس من الخليل إلى القدس؛ ليجتمع مع خلية مقدسيين ساعدته على التنكر، وقدمت له زيَّ رجال دين يهود وعبوة ناسفة، وضعها حول خاصرته، وأقلته إلى المكان الذي سينفذ فيه العملية.
الاستشهادي ركب باصًا من طابقين يحمل الرقم 2 والذي كان مليئًا بالركاب، الذين كان من بينهم متدينون كانوا عائدين من صلاة في حائط البراق في حي شمئيل هنبي، وفجَّر نفسه بينهم، ليتسبب في قتل23 وإصابة ١٣٠ آخرين.
هذه العملية الصعبة سبقتها سلسلة عمليات استشهادية في مختلف المدن الإسرائيلية أدت إلى مقتل 130 إسرائيليًّا، وهو ما دفع قيادة الأجهزة الأمنية إلى عقد سلسلة اجتماعات متواصلة أقرَّت خلالها التوجه إلى المستوى السياسي، وأخذ المصادقة على ما أطلقت عليه عملية قطف شقائق النعمان، وهي العملية التي يفترض فيها تصفية 15 من قيادات حركة حماس، ومن بينهم المرجع الروحي ومؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين.
القرار عكس تغيرًا كبيرًا في سياسة إسرائيل تجاه القيادة الدينية والسياسية لحماس، وهي ترجمة لقرار الكابينيت بعدم التمييز بين المستويين العسكري والسياسي في حماس.
التمييز بين المستوى السياسي والمستوى العسكري مكّن حماس من العمل تحت غطاء سياسي ديني إلى أن جاء شارون وبدعم من رئيس الشاباك افي ديختر ووسع دائرة الاغتيالات لتطال قيادات سياسية ودينية، وليس فقط من كان يعدّ قنبلة موقوتة.
عامي ايلون رئيس الشاباك الذي سبق افي ديختر في المنصب عارض الاغتيالات السياسية قائلاً: إذا قمت وقتلت من ينوي قتلك فإنّ المعيار سيكون درجة الخطورة وجدية التهديد، لأنني إذا لم أقتله فإنه سوف يقتلني، ولكن عندما أقتل من يتسلح بالأيديولوجيا التي تبيح القتل فإن المعيار سيصبح ليس حجم التهديد، بل مقدار الشر الكامن في أفكاره، وهنا لا يمكنك أن تقتل فكرة أو أن تصفي أيديولوجيا من خلال قتل حامليها، وأنت في هذه الحالة ستدخل في صراع مع القانون الدولي، بالإضافة إلى علامات السؤال الأخلاقية لمثل هكذا اغتيال.
لكن شارون وديختر كانا مصممين على خلق معادلة جديدة وسياسة اغتيالات مختلفة وتصفية كل قيادة حماس، حيث وضع على رأس القائمة إسماعيل أبو شنب الناطق باسم التنظيم وأحد قياداته في غزة، حيث تمّ اغتياله بصاروخ ألقته طائرة أباتشي على سيارته.
الهدف الرئيسي كان الشيخ أحمد ياسين.
أحمد ياسين من مواليد العام 1938 من قرية الجورة قرب عسقلان التي هُجّر منها إلى غزة عند وقوع النكبة، أصيب بالشلل في صباه إثر وقوعه على ظهرة، وأصبح مقعدًا يتحرك على كرسي. قبل حرب عام 1967 خرج إلى مصر لاستكمال تعليمه الجامعي في جامعة عين شمس، وهناك انضم لجماعة الإخوان المسلمين، حيث اعتقلته السلطات المصرية بعدها بعام بسبب نشاطاته في الحركة وطردته إلى غزة.
عند عودته إلى القطاع عمل في مجال التدريس في مادتي التربية الإسلامية واللغة العربية ضمن سلك التعليم الذي تشرف عليه إسرائيل.
أحمد ياسين أصبح إمام مسجد العباس، وهناك شكَّل الجماعة الإسلامية التي نشطت في غزة، وركَّزت نشاطاتها في المجال الديني والمجتمعي.
في العام 1984 اعتقل من قبل إسرائيل بتهمة حيازة السلاح، وحكم عليه بالسجن لمدة 13 عامًا، ولكنه تحرر بعد سنتين فقط في صفقة التبادل التي نفّذها أحمد جبريل، وعاود النشاط ضد إسرائيل؛ ليعلن في العام 1987 عن تأسيس حركة حماس التي أعلنت أنَّ أحد أهدافها محاربة إسرائيل وإعلان الجهاد ضدها.
إسرائيل كانت تعرف أنَّ أحمد ياسين هو من يرأس حماس، ولكنها لم تعتقله في البداية؛ لأنه مقعد، ولكنها عادت واعتقلته وحكمت عليه بالسجن المؤبد بعد خطف وقتل الجنديين افي سسفورتس وايلان سعدون من قبل الجناح العسكري التابع لحماس.
ياسين واصل دعوته لمحاربة إسرائيل من داخل السجن، والجناح العسكري للتنظيم حاول تحريره من خلال خطف جنود لمبادلته.
وضع ياسين الصحي تدهور في السجن، وإسرائيل كانت تخشى على حياته، ومن شكل رد الفعل الذي قد ينتج عن استشهاده داخل الأسر؛ لذا عرضت عليه الإفراج المشروط، ولكنه رفض؛ ليتحرر في العام 1997 بطلب خاص من ملك الأردن بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي نفذها الموساد على الأراضي الأردنية.
بعد تحرره عاد أحمد ياسين إلى مكانته السابقة كمرجع روحي وسياسي للتنظيم والمسؤول عن قيادته على درب الجهاد.
افي ديختر كان مصممًا على تصفية أحمد ياسين؛ لأنه عدّه رئيس أركان حماس، وهو ما تبناه رئيس الوزراء شارون الذي عدّه أنه لا يوجد فرق بين العسكري والسياسي في التنظيمات الإرهابية وفق تعبيره؛ لذا فإنه هدف طبيعي للاغتيال.
ديختر لم يتأثر من حالة أحمد ياسين، وكونه كبيرًا في السن ومقعدًا، حيث قال: ياسين شتلة مميتة ومن أكثر الأشخاص تضليلاً ممن قابلتهم في حياتي؛ لأنك عندما تراه لأول وهلة ستعتقد أنه مسكين على كرسي متحرك وضعيف البنية لا يكاد يتحدث سوى بصعوبة، بالإضافة إلى أنه يعاني من ضيق التنفس، وستبدو الأم تريزا قزم أمامه، ولكنه في الواقع مسؤول عن مقتل الكثيرين.
غزة لديها قصص مثيرة عن الشيخ أحمد ياسين، جزء من هذه القصص حقيقي، وجزء متخيل وأشبه بالأساطير وأحدها أنَّ الشاباك زرع في الكرسي الذي يجلس عليه جهاز تنصت؛ ليتمكن من الاستماع لكلّ ما يقوله ويرصد حركته ورغم أنَّه لا أحد يمكن أن يثبت هذه القصة أو ينفيها إلا أنها تعدّ في حال صحتها أحد الاختراقات المهمة للشاباك ومكّنته من الحصول على معلومات مهمة جدًا.
الشاباك بقي ينتظر اللحظة المناسبة لاغتيال ياسين والتي جاءت في شهر أيلول عام 2003، أي بعد شهر واحد من اتخاذ قرار تنفيذ عملية قطف شقائق النعمان، حيث جاءت معلومة موثقة أنَّ قيادة حماس ومعها الشيخ أحمد ياسبن ستعقد اجتماعًا يجمع القيادة السياسية والعسكرية.
الشاباك راقب مكان الاجتماع وشاهد وصول القيادات إلى المكان الواحد تلو الآخر إلى بيت آمن من طابقين في أحد أحياء غزة، وقام بإلقاء قنبلة تزن ربع طن من طائرة حربية، ولكن العملية فشلت ونجا أحمد ياسين وقيادة الحركة من اغتيال محقق.
أحمد ياسين الذي تعرض للاغتيال لأول مرة، أصبح حذرًا جدًّا، وكان يخرج من المكان الذي استتر فيه لمكانين فقط: بيت شقيقته والمسجد الذي اعتاد أن يصلي فيه، وكان دائمًا محاطًا بالحراس الذين كانوا يحركونه على الكرسي، وينقلونه من مكان إلى آخر.
بعد ستة شهور من المحاولة الأولى الفاشلة، وصلت معلومة إلى الشاباك تفيد أنَّ ياسين سيخرج من بيته لزيارة شقيقته وفي اللحظة ذاتها كان الكابينيت يعقد جلسته الأسبوعية، حيث تلقى وزير الجيش شاؤول موفاز المعلومة التي أشارت إلى إمكانية تنفيذ الاغتيال.
اقترب موفاز من رئيس الوزراء أرئيل شارون وهمس في أذنه أنَّ اللحظة دنت، وشارون أعطاه الإذن بالتنفيذ؛ لينتقل الأمر إلى الجهات المسؤولة عن التنفيذ والطيارين الذين سينفذون المهمة.
الحظ لعب لصالح ياسين مرة أخرى؛ لأن المارة التمّوا حوله عندما شاهدوه، وكان بينهم نساء وأطفال، وهو ما دفع الشاباك إلى إلغاء الأمر وعودة الطيارين دون تنفيذ المهمة.
في اليوم التالي 21/3/2004، وصلت معلومة موثقة تفيد أنَّ الشيخ أحمد ياسين سيقضي الليلة في مسجد قريب من بيته ومع حلول الظلام انطلقت طائرتان من نوع أباتشي، وحامت في سماء القطاع في حالة جهوزية تامة.
موفاز جلس في غرفة العمليات وتابع العملية عن كثب من خلف الشاشات التي رصدت الموقع ولكن مرّ الوقت، ولم يخرج ياسين من المسجد، وهو ما اضطره إلى المغادرة مع الإبقاء على الطاقم الذي سيشرف على التنفيذ.
على مدى عشر ساعات متواصلة تعقب الشاباك المسجد، والطائرات في السماء، والكاميرات مسلطة دون أن يعرف أحد من أين سيخرج الحراس؟ وهل سيستقل سيارة أم لا؟ وفقط عند الساعة الرابعة فجرًا ميزت الطائرات وجود حركة، وتم التأكد أنَّ الشيخ قد خرج مع مرافقيه الذين يدفعون كرسيّه نحو بيته، وخلال ثوانٍ قليلة أطلقت القذائف تجاهه مباشرة.
الصاروخ الأول أصاب الشيخ أحمد ياسين إصابة مباشرة، وكان بالإمكان مشاهدة ذلك بوضوح من خلال الشاشات في غرفة العمليات، وكيف طار الكرسي في الهواء، حيث استشهد معه حارساه، وكان أحدهما ابنه.
ديختر لخّص الأمر بقوله أنه شرف مشكوك فيه أن نحضره مرتين إلى السجن ومرة إلى القبر.
بعد الاغتيال تمّ تعيين نائبه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي مكانه الذي استهل عهده بالتهديد بالانتقام والرد القاسي الذي سيحل بإسرائيل، وكان يعرف في قراره نفسه أنه هو الآخر هدف للاغتيال؛ لذا كان يغير كلّ ليلة مكان إقامته وتجنّب الظهور بشكل علني، وهو أيضًا كان الطبيب الذي عالج أحمد ضيف بعد محاولة اغتياله.
الرنتيسي كان طبيب أطفال ومحاضر في الجامعة الإسلامية، وشغل عدة مناصب في حركة حماس، وعندما كان ناطقًا باسم الحركة دعا إلى تنفيذ عمليات استشهادية وخطف الجنود وإطلاق صواريخ القسام، وكان سُجِن ثلاث مرات في سجون الاحتلال دون أن يقلل هذا من حماسه لتنفيذ العمليات.
فترة رئاسته لحماس كانت قصيرة، واستمرت 25 يومًا فقط، ففي أول فرصة قرر فيها أن يزور بيت عائلته في حي الرمال، كانت طائرات الأباتشي في انتظاره، وأطلقت عليه صاروخين فاستشهد على الفور، ومعه مرافقوه؛ ليخرج بعدها شارون ويقول: إنَّ الرنتيسي يستحق القتل لمسؤوليته عن العمليات ضد إسرائيل.