في السياسة، تقول القاعدة الفقهية للمرافعات الحقوقية: "إنْ أحسنت العرض، حققت القناعة، فحصلت الحقوق" فيما يقوم منهج العمل الوطني على قاعدة: "كلما كبُر التحدي، كبرت المسؤولية"، ودور القائد السياسي أن يحسن عرض قضيته، ويتحمل كامل مسؤولياته.
وبناء عليه إذا اعتقد البعض منا، أن الوطنية الحقة، تُختصر في ممارسة النقد من أجل النقد، أو لتسجيل النقاط على الطرف الآخر، فليسمح لنا بالقول: إنك قصير النظر، تتعمد خلط حابل المسؤولية، بنابل الحزبية عن قصد أو عن جهل.
نعم قد نختلف مع القيادة حول هذا الموقف أو ذاك، ولكننا كي تستقيم توجهات الحرص مع أهداف الشخص، على نحو يحقق البيان والاستدلال والاستنتاج، يجب أن نختلف على المواقف لا حول الشخوص. وكي لا نقول كلاماً لا معنى له في القضايا ولا يعول عليه في الأثر، لندخل في لب موضوع المقال هنا.
بالتزامن مع خطاب الرئيس أبو مازن، في مؤتمر القمة الإسلامية الطارئة المنعقدة في مدينة اسطنبول التركية الأربعاء الماضي، كتبت معلقاً: "إن لغة خطاب الرئيس، تفيد بغدٍ مختلف عن الأمس، لما يحمل من إدانة فلسطينية للإدارة الأمريكية بشكل يغلق كافة الأبواب في وجه الإرهاب الصهيوامريكي في العالم كله. مؤكدا أن هذا الخطاب يمثلني". فما كان من أحد المعقبين على تعليقي هذا، إلا طرح عدة أسئلة تبدو للوهلة الأولى مشروعة، ولكنها في حقيقة الأمر تجافي الحق والحقيقة في آن.
أما ماهية هذه الأسئلة ولماذا أدعي أنها تجافي الحق والحقيقة معا:
أولا الأسئلة يقول المعقب: لماذا لم يتطرق إلى تنكر الكيان لاستحقاقات اوسلو؟ ولا إلى التغييرات الهائلة التي تتناقض مع الاتفاق والتي أحدثها بعد اوسلو؟ ولماذا لم يتطرق إلى الوحشية التي تعامل بها جيش هذا الكيان مع المتظاهرين سلميا ضد الموقف الاميركي؟ أليس الموقف الاميركي الذي يرفضه الرئيس هو نفسه الموقف الصهيوني؟ لماذا ماذا لم يتطرق متبنيا حراك الشباب الفلسطيني، وشاكرا الحراك الجماهيري في الشوارع العربيه رفضا للموقفين الاميركي والصهيوني؟ انتهى الاقتباس، ليخلص المعلق إلى أن الخطاب، خطاب ضعيف لا يتناسب مع حجم التحدي.
أما لماذا أصف هذه الأسئلة بأنها تجافي الحق والحقيقة معاً.. فهذا لأني للوهلة الأولى اعتقدت جازماً، إما أن الرجل مع كامل احترامنا له، كان يستمع لخطاب آخر، في مكان آخر وزمن ثالث، وإما أنه يحاول الدفع باتجاه تسجيل مواقف غير موفقة في قضية واضحة، وسأجيب على كامل الأسئلة من حواش خطاب الرئيس نفسه.
"وإنني أتساءل، كيف يمكن لدول العالم السكوت على هذه الانتهاكات في حق القانون الدولي، وكيف يمكن استمرار اعترافها بإسرائيل والتعامل معها وهي تستخف بالجميع، وتواصل مخالفة الاتفاقيات الموقعة معها، وتقوم بممارساتها القمعية والاستعمارية وخلق واقع الأبارتهايد وامتهان شعوبنا ومقدساتنا المسيحية والإسلامية".
2. فيما يقول السؤال الثاني: أليس الموقف الاميركي الذي يرفضه الرئيس هو نفسه الموقف الصهيوني؟
جاء رد الخطاب ليقول: " إن إعلان الرئيس ترامب، بأن القدس هي عاصمة إسرائيل، وتعليماته بنقل سفارة بلاده إليها، انتهاك صارخ للقانون الدولي والاتفاقيات الموقعة وبخاصة قرارات مجلس الأمن، واستفزاز للمجتمع الدولي، الذي عبرت مختلف دوله وشعوبه وقياداته السياسية والروحية ومنظماته الإقليمية والدولية عن رفضها لهذا الإعلان، وعن تضامنها مع الشعب الفلسطيني وطموحاته في الحرية والاستقلال".
ويضيف في مقطع آخر: " وأؤكد لكم، رفضنا لهذه القرارات الأمريكية الأحادية وغير الشرعية والباطلة" وصولا إلى نهاية هذا المقطع الذي يقول: "وبهذا تكون الولايات المتحدة قد اختارت أن تفقد أهليتها كوسيط، وأن لا يكون لها دور في العملية السياسية".
3. لماذا لم يتطرق متبنيا حراك الشباب الفلسطيني وشاكرا الحراك الجماهيري في الشوارع العربيه رفضا للموقفين الاميركي والصهيوني؟ وقد اجاب الخطاب على السؤال حتى قبل أن يسمعه فجاء فيه قولا: " كما أوجه التحية والتقدير إليكم جميعاً، أيها القادة ورؤساء الوفود، وإلى جماهير أمتنا الإسلامية، وإلى جميع الأحرار والشرفاء في العالم، الذين يقفون معنا في مواجهة هذه الخطيئة الكبرى" ليؤكد في مقطع تالي: "كما لا يفوتني ها هنا، أن أتوجه بكل التحية والاعتزاز والافتخار لأبناء شعبي الفلسطيني المرابط في بيت المقدس، وفي أكناف بيت المقدس، وأحيي على وجه الخصوص أهلنا في قلب مدينة القدس، الذين يتحملون أذى المستوطنين، وبطش المحتلين، والإجراءات التعسفية لقوات الاحتلال الهادفة للتضييق عليهم وتهجيرهم عبر سلسلة لا تنتهي من الإجراءات الاستعمارية" وصولا إلى تأكيده: "أقول لهم: إننا سنظل معاً وسوياً ندافع عن القدس، وندعم صمودكم، بكل ما أوتينا من إمكانات، وسنبقى ثابتين في وجه المؤامرات التي تستهدف مدينتنا وعاصمة دولتنا، وبدعم من أشقائنا وأصدقائنا، إلى أن نحقق حريتنا واستقلالنا".
بعد هذا الاستعراض الذي تضمن بعض الاجابات ، علينا الاعتراف أننا وبالرغم من كوننا الحلقة الأضعف في معادلة القوة على المستوىين الإقليمي والدولي، إلا أننا بهذا الموقف الذي سجله الرئيس كنا ومازلنا الطرف الأقوى إقليميا ودوليا فيما يخص قضيتنا العادلة، فما من رئيس حول العالم تمكن حتى اللحظة من مجابهة الدولة العظمى في مسألة ذات علاقة مباشرة كمسألة القضية الفلسطينية وحقوقها الوطنية بهذه الجرأة والوضوح.
وختاما أقول: إن المسؤولية الحقه من وجهة النظر الوطنية تنقسم إلى قسمين، شكلي وموضوعي، إنما الشكلي فيملك اصحابه، فسحة إطلاق الشعارات الرنانة، التي لا تحقق نتائج ولا تحصل حقوقا.. وأما الموضوعي فهي التي تعني امتلاك أدوات تحويل الأقوال إلى أفعال، وفي الوقت ذاته لا تدّعي بالضرورة تحصل كافة الحقوق الوطنية كاملة غير منقوصة، ليس لأن مسجلها ضعيف في زمن القوة، ولكن لأنه الأقوى في زمن الضعف والتخاذل والانبطاح. وهنا يكمن القول الفصل في منطق الانتصار للقدس.