الخميس  28 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المعركة الراهنة والتحرر من المألوف بقلم نور عودة

وعَلامَةُ رَفْعِهِ الفِكْرَة

2017-12-18 07:02:36 PM
المعركة الراهنة والتحرر من المألوف 
بقلم نور عودة
نور عودة

المتابع للصحافة الدولية وما تروجه الشخصيات اليمينية الأمريكية ومراكز الأبحاث المحافظة ذات الثقل يلاحظ وبسرعة شديدة أن هذه الدوائر تقوم بتدوير أفكار وأخبار وأشباه أخبار تهدف لخلق جو من الإحباط والغضب الفلسطيني وتسويق فكرة حتمية الهزيمة وانتصار المؤامرة من جهة والنبش في الشأن الداخلي الفلسطيني لغاية ضرب التمثيل والكينونة السياسية الفلسطينية من جهة أخرى. هذه الجهات تعول على معرفتها المسبقة بالذهنية العربية عامة والفلسطينية بشكل محدد؛ تعول على قدرتها على قلب الطاولة والصورة وتحويل الفلسطيني إلى المعتدي والرافض للسلام ومنطق التعايش.

 

على امتداد العقود الماضية، برعت هذه الجهات الداعمة لإسرائيل في تقديم الفلسطيني باعتباره كائناً غرائزياً، غير منطقي، وغير مستعدٍ للحوار؛ فيكون الفلسطيني هو الغاضب أبداً والرافض دوماً والبارع في إضاعة الفرص والمصر على العيش في حالة حرب واشتباك مستمر، وهو الفاسد الذي لا يقوى على إدارة شأنه والمتجبر الذي يضطهد أبناء شعبه والفاقد للشرعية تحت كثير من الحجج والعاجز عن استيعاب مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان. صورة منفرة وكاذبة تنكر على الفلسطيني إنسانيته وإبداعاته وإنجازاته وتعول على تكرار المألوف من ردود أفعاله حتى يتسنى للجهات ذاتها البناء على ما سبق من تشويه والتوغل في تبرير الظلم والعدوان.

 

واللافت للنظر أن ردود الأفعال الشعبية وبعض الردود السياسية في هذه الأزمة لم تخرج عن نطاق المألوف والمتوقع. شعبياً، يتحول الغضب إلى موجة عارمة تنقل بعض الشخصيات السياسية "الحردانة" دائماً إلى السطح وتقدم لهم منبراً لكيل اللعنات والاتهامات والتركيز على "لو أنهم فعلوا وعملوا" وفرضيات لسيناريوهات سياسية لم تتغير في فحواها في بعض الأحيان منذ سبعينيات القرن الماضي بينما العالم من حولنا يتغير بسرعة تفوق التصور. آخرون ينهمكون في التشكيك ونظريات المؤامرة ويبنون موقفهم على المواقف المسبقة وتجاهل المعطيات الآنية بإصرار مثير للاهتمام والاستغراب. سياسياً، يتمسك كل طرف بمواقفه المسبقة وعتاب ال"لو" الذي لا يأتي منه طائل أو فائدة. سنوات من الإحباط وانعدام التأثير السياسي للبعض ساقت كثيراً من المواقف المطالبة بهدم المعبد والبدء من جديد وكأن السيناريو هذا يحتمل التطبيق أو النجاح. هذا الإحباط والشعور بالتهميش المبرر أحياناً قاد البعض أيضاً للجوء إلى المألوف من التشفي وتلقين الدروس النظرية، متجاهلين المعركة السياسية الطاحنة التي تدور رحاها في القدس والمستهدفة للكيان الفلسطيني برمته، نظاماً ومعارضةً ومجتمعاً.

 

في ظل كل هذا المألوف، لا عجب إذاً أن نرى وسائل الإعلام الغربية بكل أصنافها تمتلئ شيئاً فشيئاً بالمألوف أيضاً، فتكتظ بمقولات تركز على عدم وجود طرف فلسطيني يمكن الحديث معه والادعاء بأن الفلسطيني هو من يرفض الفرص الذهبية وغيرها من الرسائل التي تهمش القضية المركزية وتركز على أصوات فلسطينية وأخرى تساق على أنها "صديقة" تتناسى القضية المركزية وتركز على موضوع التمثيل الفلسطيني والدعوى لهدم الكيان السياسي الفلسطيني.

 

دونالد ترامب وإدارته منهمكون في تهشيم وتحطيم كل ما هو مألوف سياسياً واجتماعياً وهذا يتطلب الخروج عن المألوف في التفكير والتفاعل السياسي من قبل الطرف الفلسطيني خاصة والعالم عامة.

 

وهناك من سبقونا في هذا التوجه. فحملة ترامب الهدامة يقابلها تغييرات كبيرة ودقيقة في الخارطة السياسية والاجتماعية الأمريكية تخرج عن المألوف هي الأخرى وتفرض لاعبين جدد لم يكونوا في السابق جزءاً فاعلاً أو مسموعاً في الحلبة السياسية الأمريكية. هؤلاء، ومنهم جماعات يهودية يسارية مناهضة للاحتلال، أقرب لفلسطين ولمبادئ حقوق الإنسان ومتحررون من قيود التبعية المادية لجماعات الضغط السياسي الداعمة لإسرائيل وقد أثبتوا في أكثر من منعطف أنهم مستعدون لإعلاء الصوت رفضاً للظلم الواقع في فلسطين وللتغطية الأمريكية على جرائم إسرائيل.

 

مشهد آخر غير مألوف تمثل في قيام أعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر بالوقوف موحدين في شجب واستنكار ما قامت به الولايات المتحدة والتأكيد على احترامهم للقانون الدولي ورفض السيادة الإسرائيلية على القدس وأي قرار تتخذه الولايات المتحدة أو غيرها من الدول تماهياً مع موقف إسرائيل غير القانوني.

 

هذا المشهد الذي وضع الولايات المتحدة في موقف لم تعتد عليه من العزلة وتلقي التوبيخ يعكس استشعار العالم بالخطر الذي تمثله إدارة ترامب على قواعد اللعبة السياسية في الساحة الدولية كما رسخها وعرفها العالم في العقود السبعة الماضية ويتجاوز في خطورته مكافأة إسرائيل على احتلالها واستيطانها وازدرائها للقانون الدولي ليشمل التعدي السافر على مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة نفسه.

 

هناك تغيرات استراتيجية وجذرية تجري من حولنا إقليمياً ودولياً تفرض نفسها على المشهد السياسي وتتطلب معالجات متحررة من قيود الشعارات الخشبية والمطالبات الانفعالية والمألوف فكراً وقولاً وفعلاً وشخوصاً. ليس هناك حلول سحرية أو ضربة قاضية والعالم من حولنا منافق وجبان ويهتم بمصالحه ويحصر دعمه لفلسطين في الممكن والمفيد له. لكن الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير وترامب بحماقته وصلفه فتح الباب للتغيير باتجاه يخدمنا ويهزمه إذا ما تحلينا بالنضج الكافي للخروج عن المألوف والتفكير بهدوء وبرود غير مألوفين.

 

الموقف الفلسطيني الرافض للبلطجة الأمريكية "الترامبية" فرض على العالم ما هو غير مألوف بالرغم من أجواء عالمية تحابي ترامب وتفضل عدم مواجهته وتصر على إبقاء قواعد اللعبة بشكلها المألوف والقاضي بالهيمنة الأمريكية. موقف فلسطين الصلب غير هذه القواعد وفرض نقاشاً مختلفاً وخارجاً عن المألوف.

 

المطلوب الآن هو الغوص في التفاصيل والانتباه لدقائق الأمور وترك العموميات. أولوياتنا يجب أن تكون الصمود في وجه العاصفة والتحلي بالمسؤولية الوطنية الكفيلة بحماية الكيان السياسي الفلسطيني على علاته وإشكالياته، إدراكاً منا بأن السيناريو الأفضل لتحالف نتنياهو-ترامب-ومن لف لفهم هو عدم وجود عنوان فلسطيني سياسي قادر كما هو الآن أن يعكر صفو تحالفهم بقول لا وممارستها سياسياً. المطلوب أن نجري تحديثاً في أدواتنا وتفكيرنا وأن ننشغل في إعادة صياغة نظامنا السياسي وأدواته بما ينسجم مع المرحلة الخطيرة الراهنة والآخذة في التشكل أمام أعيننا، دون اللجوء إلى صياغات جاهزة تكرر سيناريوهات قديمة لم تعد تحاكي الواقع وحيثياته السياسية والعينية. دعونا نتحرر من وصفات النوستالجيا والإصرار على القوالب الجاهزة غير القادرة على مواجهة التغييرات الجذرية والمتسارعة الراهنة.