عليك أن تثق بي.....!
يقول ثم ينفخ دخان سيجارته بوجهي.
رياح ساخنة تعبث برأسي من وراء القضبان، لا تتركه إلا وحبّات متوهجة تسيل وحيدة من فوق وجهي.
- ما الذي تفكر به؟ هل تجرؤ على هذا العصيان، اعترف أيها الجبان؟ يقول بلكنته مضحكة.
أتيقظ كطير أصيب بعيار ناري.
يستند بقامته العسكرية على الجدار الإسمنتي الذي ارتسمت عليه بضعة كلمات كتبها مساجين قضوا سنوات أسرهم بفارغ صبر، أرخوا نبضهم فوق قساوة ملمسها وأودعوا حزنهم لأحرف امتصها الجدار ومسّد فوق قلوبهم فكانوا بأمان.
يعدّل نجومه التي اعتلت كتفه بحذر، يحدق في السقف ثم يهرش أنفه ويعلو تكوير جسدي الواهن.
- ألن تقول الحقيقة، لقد نفذ صبري! أنت صعب المزاج ، أفهم أن "فلسطينك سترجع يوماً" لكننا هنا في السجن، وستبقى كذلك، إلا اذا تعاونت معي وأخبرتني بأسماء زملائك وعناوينهم.
يصمت هنيهة ويبحث في علبة سجائره الفارغة عن سيجارة، فيصاب بخيبة الأمل لنفاذها ثم يستطرد:
- بضع جدران هزيلة تحيط بك ووطن مسلوب وأصدقاء تركوك وحيداً في هذه الزنزانة الحقيرة، ألا تدرك ذلك؟ قضبان بالية اللون تمنع النهار عنك ورسم بدائي تقرأه كل يوم كأنك في الحضانة، ثم يمسح بيده على الجدار قارئاً ما كتب عليه بخطوط متعرجة.
( القدس عربية، فلسطين داري، تسقط اسرائيل) أقاطعه:
- فلسطين داري ودرب انتصاري!
- ها ها ها، نحن نعرف ما تكتبونه جيداً وما تشعرون به ضدنا، ولا تهزّنا حروفكم ولا نأبه لغضبكم، أتظنون أنكم بعنادكم هذا ستقهرون دولة بأكملها؟ أنتم مجرد دمى تتحرك ولا تعرفون معنى الحياة، ألا تودون العيش بدفء وأمان؟ إذن اطلبوا الرحمة واعترفوا بهزيمتكم.
- الدفء هو أن تكون في وطنك وأن ينتهي زمنك أيها المحتّل الغاصب والنصر يأتي من عند الله لا من عندكم، وأنتم ثلة مارقة ستزول قريباً.
أنظر إلى عينيه، تتحركان باتجاهين مختلفين، هل هو (أحول)؟ ، كيف لم أنتبه لذلك عبر كل هذه السنين التي أمضيتها في أسري، لكنه يرى جيداً! أجل و يلمح كل شاردة وواردة ، فلا تغيب عن ناظره تحركاتنا امام قضبانه ولا ترمش له عين لوجع أحد المساجين أو انطفاء عمره.
يقترب مني ، يلهث بلعاب يخرج من فمه:
- مالنا وإياكم، فانتم من اقترفتم الخطيئة ورفضتم العيش بأمان، ما لنا بقهركم داخل بيوتكم، فهذا كله من صنع حكامكم وأنفسكم، وأنتم منقسمون في دواخلكم فكيف ستنتصرون كما تدّعي؟
يبدو وجهه قبيحاً، مُستطيلاً كحذاء ويلتصق من فوقه شارب كث، أسنانه مبعثرةٌ كبراعم دخان حصدت على عجل ورميت في فوهة فمه بشكل عشوائي، أما عيناه فقد غارت بمحجريهما واستوت مع تكوير جبهته.
لا أخاف من النظر الى وجهه مباشرة، أستجمع شجاعتي ثم أبصق بوجهه.
ينظر إلي، يبتسم، يمسح البصاق عن وجهه، ثم يجلدني بسوطه.
- هل تخال نفسك ضحية ومظلوماً، وان إصرارك على عدم الاعتراف على عصابتك سيحميهم، نحن سنعرفهم عاجلاً أم آجلاً، فلا داعي لهذا العنت، قُل اسماً واحداً وسأطلق سراحك، ستنعم بحريتك، ستكون كالعصفور، قل لي وسأكون لك سنداً وصديقاً.
- أنت عدو وستبقى عدواً.
- فلسطين مجرد حلم كلكم تتخيلونه، ونحن نعلم ذلك جيداً، هل تدرك أن الذي يلقمكم هذا الحلم يعيش برغد وهناء بينما أنتم تعيشون بإرهاب ونزق دائم .
- أنتم الارهاب وأنتم من صنعه وأدامه، فلسطين واقع رغماً عنكم، وان كانت حلماً فانه أجمل الأحلام، ستعرفون يوماً ما أن الثورة لن تنتهي إلا بطردكم من حيثما أتيتم، وأن من لا قضية لديه سيبقى ضعيفاً وأنتم ضعيفون أمام اطفالنا فكيف أمامنا.
يضحك هذه المرة بصوت عالٍ.
- نحن الذين نعلمكم أبجدية التذمر والشكوى وستظلون تتقاتلون، أنظر الى بلاد العرب الأخرى ، كيف كشفت الثورات عوراتهم وعكّرت حياتهم.
أتابع حركته في الزنزانة الصغيرة، أحس بهزل في كلامه، ورجفة تمتحن يده التي يمسك فيها السوط، يمعن النظر الى الخارج ويكمل حديثه كأنه يحدث نفسه :
- الحرية كذبة، والمقاومة مجرد مسرحية اعتدتم عليها. مساكين أنتم، كلكم تمثّلون فوق خشبة مسرح واحدة، أدواركم ملهّا الجمهور، وغدت مسرحيتكم قديمة.
أضحك هذه المرة، وأتركه يتخبط بفكره الواهن وحقده الدفين.
يشيح بنظره باتجاهي لتجحظ عيناه عندما يجدني صامتاً ثم يمسك بقميصي.
- يا أنت ! الن تبوح بالأسماء؟ يصيح مجدداً بأعلى صوته، ثم يصفعني بيده.
- لا ، لن أبوح لك بشيء، فلا زال لدينا الكثير، ضحكة اطفالنا، أملنا الذي لن يخبو، ولدينا أرضنا التي سترجع لنا يوماَ.
أتمتم وما يزال السجان مُمسكاً بقميصي.
- سنقف بوجهكم ما حيينا وسلاحنا ضحكاتهم وذرات تراب أرضنا، سنركلكم بارجلنا، حتى لو قضمتم قلوبنا، لآخر ذرة تراب وحتى أخر ضحكة سنقاوم.
يشد قميصي المُهمل نحوه ليلتصق وجهي بمقدمة وجهه المستطيل، أشعر بخشونة شعر ذقنه ورائحة فمه المختلطة بالتبغ وطعام رخيص الثمن قد تخمر بجوفه.
- سلاحكم ضحكات اطفالكم وسلاحنا هم أطفالكم حين يكبرون، سيكونون في زنزانتك هذه، وسيدركون اننا نحن الاصل، وأن لا قوة في هذه الدنيا ستتغلب علينا نحن القوم المختارون .
يفلت قميصي ممزقاً على أرض الزنزانة ثم يردف:
- هل أصلحت الثورة حياتكم؟ أجبني! أم زادتكم بؤساً وقنوطاً، تبحثون عن الحرية في الخلاص من السجّان، ومن يدير شؤونكم الرثة، وتعلقون همومكم على مشجب الاحتلال. البؤس ملاصقٌ لكم وستهدرون حياتكم بحثاً عن الخلاص، لكنكم بالنهاية ستدركون أننا نحن الخلاص.
يبتعد قليلاً عني، فألتقط أنفاسي وما تبقىّ من قميصي، وأمسح قطرات الدم من فوق فمي:
- هَمُنّا هو زوالكم وزوال دولتكم البائسة، وصمودنا هو من يؤرق ليلكم، ويفسد بهجة نهاركم ودعة ليلكم، ينام معنا على نفس الوسادة، يأكل مما نأكل، ونجفل إن غاب يوماً عنا؟
- تنقلبون على أنفسكم وتقيمون ثورة، ولا يعجبكم حاكمكم القديم وتخلعون الجديد وتلعبون نفس اللعبة ثم تتغنون "بالحرية الحمراء"، أما سئمتم من ذلك؟
هل تدري! ..سأكتب مثلكم على الجدران.
"فلسطين ليست داري".
يكتب على الجدار بأحرف مثل المجنون الذي فقد عقله، ثم يستدير إلى باب السجن ليتأكد أن أحدا لا يراه. يبتسم بسخط.
يشيح النظر مرة أخرى الى الجدار الذي كتب جملته عليه، يفرك عيناه ، يلتفت الى حيث أجلس.
يقرأ ما كتبه مرة أخرى بفزع وذهول:
فلسطين داري !