الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

رؤية نقدية في ديوان "أبجديات أنثى حائرة" للشاعرة سماح خليفة

أ.د عمر عتيق

2017-12-28 08:53:13 AM
رؤية نقدية في ديوان

يشكل عنوان العمل الأدبي فضاء لغويا ينبغي أن يتسع  للإشراقات الدلالية التي تضيء حنايا النصوص كلها ، فالعنوان وفق المنظور النقدي هو العتبة التي يستشرف منها القارئ آفاق النص ، وهو النافذة التي تتيح للقارئ أن يرى المدى الدلالي الذي يتشكل وفق تأملات القارئ وثقافته . ويأتي عنوان (أبجديات أنثى حائرة ) ليجيب عن تساؤلات عتبة العنوان التي تعد في النقد السيميائي باكورة الإبداع الكتابي . ومن المرجح أن القارئ المتأمل يجد أن لفظ " تجليات " أقرب من لفظ " أبجديات " وفق المفاصل الدلالية للنصوص . ، ولكن المبدع يختار العنوان وفق رؤية شمولية ، وإحساس مكثف في وقت تتداعى فيه عصارة الفكرة وعبق العاطفة فيولد العنوان من هذا المزيج ليشكل قوس قزح تتعدد فيه تأويلات القراء ، وفي التعدد والاختلاف جماليات التأويل .

 

ومن المفيد التأكيد أن لفظ " حائرة" في العنوان يتجاوز دلالة" الحيرة " المألوفة إلى دلالات رحبة تشمل الرفض والتمرد والعنفوان للخطاب الثقافي الذي يشكل تحديا للكاتبة . وتغادر دلالة " الحيرة " في العنوان المستوى المعجمي إلى مستوى تأويلي يمتد إلى العصب النابض في جسد النصوص . وتختزل حيرتها رؤية ثقافية تتجلى في البنية العميقة للنصوص .

 

أما العتبة الثانية فهي الإهداء الذي اختزل الخلايا الدلالية للنصوص بوساطة  أربع علامات سيميائية موزعة على المرأة والرجل والوطن والحلم . وتجسد العلامات الأربع العصب الدلالي والتوهج الوجداني في الديوان كله ،فالنصوص لا تغادر دلالات العلامات الأربع . واستئناسا بدلالة الإهداء فإن سماح خليفة تبتكر أسلوبا لافتا في صياغة الإهداء بعيدا عن مضامين الإهداء المألوفة ، وكأنها تنقل الأفق الدلالي المتوقع من العنوان إلى الإهداء ، وفي هذا التحول الأسلوبي يكمن التجديد والابتكار والتفرد .  وأما العتبة الثالثة فهي العناوين الفرعية للنصوص التي جاءت في مسارين ؛ مسار مباشر تتجلى فيه العلاقة بين العنوان الفرعي ودلالة النص . ومسار إيحائي رمزي يقتضي  تأملا في العلاقة بين المعلن والمضمر . ويتعالق كلا المسارين مع الفضاء الدلالي للعنوان الرئيس ، والآفاق الدلالية المبثوثة في خلايا النصوص .

 

ويغلب على النصوص التشكيل الاستعاري الذي يتوزع على التشخيص والأنسنة والتجسيد والتجسيم . وفي غير موضع تتضاعف يقظة القارئ للمعنى حينما يتأمل الصورة الاستعارية التي تنقل المعنى من المألوف إلى الدهشة . ولا يخفى أن القدرة على التصوير  تكشف عن قدرة المبدعة على التحليق بخيالها لتشكيل دلالة غير مألوفة في الغالب ، ورغبتها في إعادة صياغة مفردات الحياة وفق رغباتها غير المعلنة ، ورؤيتها التي تَضمرها البنية الاستعارية  ، كما يحدد التصوير مدى تفاعل المتلقي مع مكونات الصورة  ، وإذا استطاع القارئ تفكيك أصداف الصور الاستعارية يستطيع أن يرى جماليات المحار وأسراره  الذي حرصت سماح خليفة على إخفائه في أصداف البناء الاستعاري .

 

ومن اليسير على القارئ أن يرصد اشكال الصورة إذا أحسن تصنيفها إلى صور مرئية تقترب من اللوحات التشكيلية ؛ إذ يمكن تحويل عدد من الصور الحسية المرئية لدى سماح خليفة إلى لوحات تشكيلية تتبادل فيها الكلمات والألوان والتخيل أدوارها . وربما تكشف  القدرة على التشكيل الفني موهبة  في الرسم  لدى الشاعرة. وتتجلى الصور الذهنية في عدد من النصوص ، حينما يشعر القارئ أن العلاقات الدلالية بين الألفاظ المفرد والتراكيب غير متجانسة ، وتحتاج إلى متلق يقظ للدلالات غير المعلنة كي يستطيع تشكيل دلالة مما يبدو متناثرا ومتباعدا . أما الصورة الممتدة ( العنقودية) فتتجلى في غير موضع ، نحو قصيدة ( واقع مؤلم ) حينما يتجلى إبداع " سماح " في رسم الصور الجزئية المتتابعة التي تشكل مشهدا تصويريا سينمائيا لا يمكن فصل لقطاته عن بعضها بعضا ، إذ يبدو جمال الصورة في امتدادها وتوسعها ، ولا يمكن انتزاع " لقطة " من سياقها ، وهذه هي الصورة العنقودية الممتدة التي تشكل أيقونة تضيء نصوصا عدة .

 

ومن الصور العنقودية نوع تتجانس فيه مكونات الصورة وعناصر التأليف والتركيب ، فتبدو الصورة مشكلة من عناصر متجانسة ، نحو الصورة العنقودية في قصيدة (صرخة أنثى) التي جاءت خاتمتها تكاملا وتجانسا بين عناصر الصورة في قولها : (مِنْ مَراكِبِنا التّائِهةِ في بِحارِ الغُرْبَة ولْتَرسو على شاطِئ شَغَفِنا المُ ثْقَلِ بِرمالِ الْعِشْقِ الْحائِرة )

 

ومن الصور التي تستحق المعاينة والتأمل التشكيلات التصويرية المؤسسة على الأفعال الحركية المتلاحقة والمتتابعة التي ترسم أطيافا نفسية ذات إيقاع صاعد يصل إلى درجة التوتر . وتكشف الصور المتوترة عن الأفق النفسي للنص ، وتوجه المتلقي نحو المعنى المضمر الذي تحرص  الشاعرة على تجسيده وتكثيفه ، نحو قصيدة " أردية بالية " التي تتسارع فيها الدفقات الدلالية والإيقاع الصاخب بوساطة أفعال حركية ذات كثافة دلالية ونفسية نحو (يَنْتَفِضُ يُمَزّقُ يَنفُضُ يَصْرخُ يَقفِزُ ) وغيرها من النصوص . وتصل بعض الصور الحركية إلى " التحريض" على التغيير الذي يعد رسالة سامية يتكفل بها الأدب عامة ، والشعر خاصة ، نحو قصيدة (الحق أنت ، رسالة إلى أسير ) التي ترسم  فيها الأفعال المتتابعة فضاء دلاليا تحريضيا مقترنا بإيقاع وجداني صاخب يتجلى في أفعال (انْهَضْ وأطْلِقْ اكْسِرْ ... ) وتنهض هذه الأفعال بوظيفة دلالية وجدانية .

 

ولا يتسع التقديم لرصد الظواهر الأسلوبية ، ومعاينة الإشراقات البنائية ، لذا أكتفي بالإشادة بالمشارب الثقافية التي أفادت منها " سماح خليفة " في تشكيل نصوصها ، وهي مشارب ثقافية تمنح الفضاء الدلالي للنصوص خاصية التناسل والتكاثر الدلالي التي اصطلح  النقاد  على تسميتها بـ " التناص " ، وبعضهم يراها مرجعيات ثقافية "، ومهما تعددت المسميات فإن المنبهات الثقافية جاءت موزعة على وعي إعلامي سياسي تمثل في توظيف عدد من الأسماء الإعلامية ذات الحضور الفاعل في الوسط الإعلامي نحو (هوكستارد و كاثرين غراهام ). وتبرز المعرفة الثقافية التي تشكل جزءا من الوعي الجمعي نحو الإفادة من المخزون المعرفي المرتبط بـ " نيرون " ، وامتصاص قصة " بلقيس " من المتن القصصي القرآني ، وتحويلها إلى نص يخاطب اللحظة الراهنة ، والمقاربة بين الشعر التراثي وما تقتضيه الأبعاد الدلالية للقصيدة المعاصرة نحو امتصاص صورة شعرية لامرئ القيس في قولها : (دَعيني أَتَسلَّلُ إلى قَلْبِكِ كَعاشِقٍ شَفّهُ الْوَجْدُ مِنْ عَل).