قد لا نختلف في فاعليّة المقاومة الشّعبيّة وإن كانت جزئيّة على نحوها الحاليّ، وبطيئة التأثير طالما بقي سراب التّسوية يظلّ ممارسات الاحتلال وعدوانه من جهة، ويختصر، من الجهة الأخرى، تمدّده كنتيجة طبيعيّة لما سوّقه الاحتلال بنجاحٍ عن كون القضيّة لا تخرج عن إطار الخلاف السّياسيّ بين طرفيْين متعادليْن نسبيّاً، في الحق والاعتداء. وهكذا أصبح يقترن (اعتداؤنا) على ما تلزمنا به أوسلو المبهمة مبرّراً لعدم التزام اسرائيل بأيّ شي، بل ولتمدّد مستوطناتها بين بيوتنا. رغمَ إنّك تعرف جليّاً إن أوسلو نفسها لم تعرّج على الاستيطان أصلاً - يا له من اتّفاق! على كلٍّ هاك اختصارٌ للعلّات الكثيرة للمشروع الشّعبوي - في صورته الحاليّة - إن صح التعبير:
أوّلا، إنّ حركة المقاومة الشّعبيّه تنشط لالتماس الشرعية لحقوق الفلسطينيين من المجتمعات الدّوليّة، إذ توظّف أنشطتها لتعريف حركات المجتمع المدنيّ حول العالم - الغربي على وجه الخصوص - بأحوال الفلسطينيين تحت الاحتلال المعترف به دوليّاً (وهو أصلاً اعترافٌ معتل)، في الضّفّة الغربية تحديداً.
أمّا الهدف فهو أن تنشط المجتمعات هذه للضّغط على حكوماتها نحو تبني مواقف سياسيّة في صالح الفلسطينيّين. العلّة هنا هي في تعريف ما هو في صالح الفلسطينّين أساساً، وفي مدى جدّيّة المكاسب على المدى المنتظر.
أما تعريف ما هو في صالح الفلسطينيّين فيبدو إنّه لا يتجاوز أوسلو غالباً، وإن تعدّاه فهو هامشيٌّ لأنّ داعميه يقفون على أقصى يسار اليسار في الغرب، ومن ثمّ فإنّ تولّيهم أيّ سلطة فاعلةٍ لن يكون، على الأقل، قريباً.
ولأنّ الوقت يصبّ في مصلحة المقتدرِ على الأرض فعليّاً، لست أقصدنا نحن بكل تأكيد، فقد أضحىت الحاجة لتخطّي فكرة البحث عن الحقوق في عواصم الغرب كمشروعٍ وحيدٍ للتحرير ملحّة.
ثانياً، لقد نشأت حركة المقاومة الشعبية مبدئيّا - باستثناء حركة المقاطعة المعروفة BDS ونشاط بعض المفكّرين الفلسطينيّين الّذين استثمروا بجديّة علاقاتهم بالعالم الخارجيّ - كذراع ضغطٍ سياسيّ للسّلطة الفلسطينيّة، ضمن مشروع السّلطة السّياسيّ. تحديداً لمجابهة مشروع المقاومة بالسّلاح الّذي استثنته السّلطة الفلسطينيّة، وتمكيناً للمشروع (السّلميّ) البديل.
لذا فإنّك قد تلاحظ إنّ السّواد الأعظم من النّاشطين في المقاومة الشّعبيّة هم في واقع الأمر منتمون لحركة فتح، ويمكن وصف بعضهم بالجناح الاصلاحي في الحركة، حيث سُمِحَ لهم - أو انتزعوا - مساحة لا زالت مضطربة من الحريّة تخوّلهم لانتقاد أداء السّلطة الفلسطينيّة نفسها، وإن لم يتخطّ مجال الإدارة في مجمله وحدّته.
أمّا سبب اضطراب المساحة المسموحة للانتقاد فيخرج عن موضوعنا هنا لكنّ غالبه متعلّق بسِعةِ الفضاء المتذبذبة من الخلاف بين أولويّات الصقور في فتح وشبكة مصالحهم مع أفكار المجدّدين وقدرتهم. علينا الإشارة إلى أن السّلطة الفلسطينيّة استثمرت - سرّاً - في مشروع المقاومة الشّعبيّة، بالمال وبالتّسهيلات أيضاً.
وهنا وجبَ الثّناء على الاستثمار، إذ إنّ مشروع المقاومة الشّعبيّة أضحى يمتلك صدىً في عواصم العديد من الدّول الغربيّة، يعود في نظري لثلاثة أسباب: الأوّل هو لعدالة القضيّة واقتران مطالبها مع مكتسبات المواطنين الغربيّين من الحقوق الأساسيّة.
الثُاني هو إن جلّ ناشطي المقاومة الشّعبيّة يبدون شعبويّين، أي يشبهوننا، في حديثهم وقربهم وهندامهم وبيوتهم، ولا تبدو عليهم لعنات الغنى والنّفوذ و الغياب كما هي عند الصقور في السّلطة الفلسطينيّة. إنّهم أيضاً أكثر حيويّة ونشاطاً من صقور السّلطة العاجزين - فعلا وفسيولوجيّاً. هذه الصّفات - الحسنة - مكّنتهم من جذب أعدادٍ لا بأس بها من المتعاطفين الأجانب - فهم مثالٌ عمليّ لمعاناة الفلسطينيّ الصّارخة.
أمّأ الثالث فهو إنّ رسالة الواقع الفلسطينيّ في الغربِ أصبحت تنتشر على لسان الغربيّين أنفسهم من المتعاطفين وحلقاتهم الاجتماعيّة ولم تعد حكراً على قنصليّات السّلطة الهرمة، أو على أدواتها الإعلامية الّتي لن يتّفق اثنان في تحديد مدى صلاحيّتها أو، حقيقةً، على وجودها أساساً.
والعلّات هنا تكمن في جهويّة المقاومة الشّعبيّة من ناحية، وفي اعتمادها مشروعاً دون سواه للتّحرير. فجهويّتها تجرّدها من أهمّ أسباب نجاها وهو إيمان المجتمع بها ومن ثمّ الالتفاف حوْلها. و هنا قد تتساءل عن مدى صدق السّلطة في تبنّيها للمقاومة الشّعبيّة بينما اعتقلت واحداً من رموزها و عذّبته - باسل الأعرج وآخرين - في سجن بيتونيا قرب رام الّله مدّة خمسة شهور لمجرّد (مقاومتهم الشّعبية) للتنسيق الأمني بين الاحتلال و السّلطة الفلسطينيّة - على رأس أسباب اعتقالهم كان احتجاجهم السّلمي على عزم السّلطة استقبال مسؤولين إسرائيليّن والاجتماع بهم في رام الّله، و يعود أبرز ها لعام ٢٠١٢ تحديداً إثر التنسيق لاجتماع كان مقرّراً بين رئيس السّلطة الفلسطينيّة و نائب رئيس الوزراء الإسرائليّ آنذاك شاؤول موفاز.
تجدر الإشارة إلى إنّ قوّاتٍ من الجيش الإسرائليليّ اقتحمت مدينة رام الله - المحتلّة - يوْم السّادس من مارس عام ٢٠١٧ وأعدمت الأعرج بدمٍ بارد حيث كان يلتجئ في أحد البيوت.
لا يساور الفلسطينيّين شكٌّ بإن سبب نجاح إسرائيل في اغتيال (المثقّف الثّائر) هو نفسه ما كان يحتج ضدّه وسُجنِ على إثره - التّنسيق الأمنيّ بيْن السّلطة الفلسطينيّة واسرائيل. أمّا السّلطة الفلسطينيّة الّتي يبدو إنّها تتبنّى الآن مشروع المقاومة الشّعبيّة، فهي لم تشارك حتّى في تأبين الأعرج ولم تعتذر - حتّى اللحظة - عن سجنه وتعذيبه وعن تنسيقها الأمني مع اسرائيل٠
أمّا في اعتمادها مشروعاً أوْحداً للمقاومة والتّحرير فهو أوّلاً سببُ شرخٍ واضح في المجتمع الفلسطينيّ إذ يهمّش خيار المقاومة المتكامل الّذي كان قد أحرز اجماعاً أكبر حجماً حسْب آخر انتخاباتٍ نيابيّة في فلسطين المحتلّة. أضف إلى ذلك أن نتائجه المرجوّة تعتمد أساساً على الرأي العامّ العالميّ (الغربيّ تحديداً) والوان مؤسّساته الرسميّة، وهي كلّها متذبذبة. فأنت ستطمح ل (كوربين) مثلاً في لندنّ لكنّك ستجد (ترمب) في واشنطن.
إنّ الاعتماد الكامل على عطف الآخرين لتحسين وضعك هو تضحيةٌ بأوراق القوّة لديْك، وعلى رأسها اجماع الفلسطينيّين أنفسهم. أضف لذلك إنّه نتيجة لعدم اقتران مشروع المقاومة الشّعبيّة فلسطينيّاً بمدى اعتماده و انتشاره لدى يسار الغرب المتعاطف، فإنّ ذاك قد يعني إنّه سيطرح علينا - مرّة أخرى - مشروع ”حلٍّ عادل للقضيّة“ من الخارج إذا ما اقتدر يسار الغرب.
على كلّ قد تشاطرني الشكّ بأنّ رأي الثمانية مليون لاجئ فلسطيني في أيّ طرحٍ خارجيّ ل”حلّ عادل للقضيّة“ لن يكون ايجابيّاً.
ثالثاً، لا يبدو إنّ المقاومة الشّعبيّة تنجح في تعزيز ممارسات المقاومة باستثناء ايصال صورة المعاناة للخارج. ليست علّة هذه بقدر ما هي نقص وجب التّنويه إليْه. مثال ذلك عدم تسويق ممارسات المقاطعة فعليّاً، أو على الأقلّ عدم منحها استثماراً كافياً من الجهد والنّشاط.
أمّا العلّة هنا فهي في عدم اعتمادها من قِبل السّلطة الفلسطينّية أساساً، نفسها الّتي تزعم تبنّي فكرة المقاومة الشّعبيّة. وبالتّالي فإنّ التصاق المقاومة الشّعبيّة بشكلها الحالي - باستثناء بعض الناشطين والمفكّرين - بالسّلطة هو مصدر أساسيٌّ لضعفها وعدم اكتمال مجال نشاطها. لا داعٍ هنا للتّعريج على ممارسات السّلطة الفلسطينيّة نفسها باتّجاه التّطبيع، أحياناً المباشرةً، والتزامها بعدم المقاطعة - غالباً بحجّة غياب البديل.
هذه أسبابٌ ثلاثة لنواقص المقاومة الشّعبيّة بشكلها الحاليّ، ويبدوإنّ جلّها عائدٌ للسّلطة الفلسطينّة نفسها ولخياراتها، وممارساتها. كيف إذن لها أن تباهينا بها الآن وتفتخر بها؟