المعادلة الصفرية في العلاقات الدولية، وحسب التعريف السائد تعني باختصار شديد، "أن مكاسب طرف هي بالضرورة خسارة للطرف الآخر"، ما يعني أن المفاوضات بين طرفي الصراع قد وصلت إلى طريق مسدود، وبالتالي لا قيمة لها، الأمر الذي يعيق طريق الثقة المتبادلة، ويخلق النزاعات الكبرى.
في الحالة العربية الإسرائيلية، السياق يأخذنا باتجاه "علم اجتماع المعرفة"، وهو علم يتناول علاقة حركة الأفكار بتجربة المجتمع، وكيفية بناء مجموعة من الأفكار التي تصبح فيما بعد نسقاً فكرياً مشتركاً بينها، يعبر عنها، وعن مصالحها ورؤيتها لكل شيء، بل ويحدد سلوكها السياسي والاقتصادي.
ولأن السمة الأساسية للفكر الصهيوني، كما توضحها الكثير من الدراسات، وخاصة دراسات العلّامة الراحل "عبد الوهاب المسيري"، تعتمد اعتماداً أساسياً على فكرة "اليهودي الخالص"، أي اليهودي الذي يُفترض بحضوره غياب العربي، فإنها راحت تخلط بشكل متعمد بين المقدّس والقومي، وبين المطلق والنسبي، وتمزجهما أحياناً. وهنا لب المشكلة التي نواجهها اليوم، "مشكلة المقدسات"، وخاصة المقدسات الإسلامية التي بات التعرض لها حدثاً يومياً لا يمكن أن ينكره أي مبصر على سطح البسيطة.
وعندما نتحدث عن مشكلة التعرض للمقدسات الإسلامية، يصبح الحديث عن المعابد اليهودية أكثر إلحاحاً، تحديداً حينما نعلم، وكما استعرضنا أعلاه، أنها، أي المعابد اليهودية "المؤدلجة"، تعمل على تثبت مفاهيم الأيديولوجيا الصهيونية التي تحمل الكثير من الأوهام والادعاءات المزيفة للتاريخ، كما لكافة التشريعات السماوية والوضعية معاً. ما يتيح لها تصدير الدعوة تلو الأخرى لاقتحام باحات المسجد الأقصى، "جبل الهيكل" حسب ادعاءاتهم.
ما يأخذنا لأصل الصراع باعتباره "صراع وجود لا صراع حدود"، وللعلم فقط، إن المفهوم لدينا كما هو لديهم بالضبط، بل إنه لديهم يذهب نحو فكرة الإقصاء التام والكلي لكل ما هو عربي، فيما هو لدينا يحمل الكثير من إمكانية العيش المشترك تحت سقف واحد.
لو توقفنا عند العملية الأخيرة التي استهدفت كنيساً يهودياً في "القدس الغربية"، وتداعيات النقاش الحاد، حول خطورة استهداف أماكن العبادة كما يقول بعض العرب والفلسطينيين، سنجد أنفسنا نعمل، ربما بوعي أو دون وعي، على أنسنة الاحتلال بكل شواهده، من هدم وتهجير واستيطان واعتقال وحرق وشنق واغتيال، والأهم، هو الاعتداء اليومي المتعمد على مقدساتنا بشكل استفزازي مهين.
وبالرغم من كل ذلك، نجد لزاماً علينا الاعتراف أن الصراع من جهتنا نحن العرب، لم يأخذ بعد صفة الصراع الديني، ولنا في دلالات هذه العملية خير دليل، خاصة حينما ننتبه جيداً إلى أن منفذي العملية هما من اليسار الفلسطيني.
ورداً على محاولات الأنسنة التي أشرنا إليها، يجب التنويه إلى التالي:
1- إن إسرائيل هي أول من انتهج هذا النهج حينما أقدم المستوطن الإرهابي "باروخ غولدشتاين" على ارتكاب جريمة الاعتداء على المصلين في الحرم الإبراهيمي أثناء الصلاة، وأعتقد أننا سميناها بـ "مذبحة الحرم الإبراهيمي". وهذه لم تكن العملية الوحيدة ولا أظنها الأخيرة.
2- إن إسرائيل، وكما تشير كافة الأحداث منذ سبعين عاماً وإلى اليوم، لم تنتظر يوماً أي تبرير لتفعل ما تفعله من جرائم على كل الصعد، استيطان، تهجير، تهويد، اعتقال، قتل، فصل عنصري، واستهداف لكل ما هو فلسطيني، إلى آخر قائمة الاعتداءات الإجرامية التي يمارسها هذا الكيان الغاصب.
3- إن القول: بأن هذه العملية أو غيرها تستهدف المدنيين هو قول خاطئ تماماً، لأن المجتمع الإسرائيلي مجتمع قائم بالأساس على فكرة الإحلال، ما يعني أن كل من وطأ أرض فلسطين من الصهاينة، هو مستوطن مغتصب للأرض، وعليه فإن هذا الكيان، يعد الكيان الوحيد على وجه الأرض الذي لا يحمله مجتمعه، صفة المجتمع المدني.
4- يجب التوقف طويلاً وجداً أمام الفتوى التي أصدرها أكثر من خمسين حاخاماً يهودياً، وتلا ملخصها الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين "يتسحاك يوسف" قبل أيام قليلة، ليؤكد على تحريم اقتحام المسجد الأقصى في الديانة اليهودية، قائلاً: "على اليهود الامتناع عن الذهاب إلى الحرم القدسي وإثارة العرب، يتوجب إيقاف هذا، فقط بهذه الطريقة يمكن وقف سفك دماء شعب إسرائيل". مستنداً في ذلك على أنه، وحسب التوارة، "لا يجوز الصعود إلى جبل الهيكل في وضعه الحالي"، وأن على اليهود الانتظار لعودة "المسيح المنتظر"، مشيراً إلى أن من يقومون بذلك يسعون لتحقيق مكاسب سياسية لا علاقة لها بالدين اليهودي. فضلاً عن وجود تشريعات في الأدبيات الدينية اليهودية تحرّم القيام بأي فريضة إذا تسببت بمقتل فرد يهودي واحد، علماً بأن الحاخام "يتسحاك يوسف" هو ابن الحاخام "عوفاديا يوسف" الذي اشتهر بتشريعاته العنصرية ضد العرب والفلسطينيين. وهنا تتجلى الإشارة التي أوردناها في بداية المقال حول الخلط المتعمد بين المقدس والوطني، وبين المطلق والنسبي. وهنا نجد الاختلاف بين الأب وابنه في هذا السياق.
5- إن المسبب الرئيسي لكل هذه التوترات هو وجود الاحتلال بحد ذاته، خاصة ونحن نتحدث بعد ما يقارب الربع قرن على البدء بما يسمى بـ "مفاوضات السلام"، تلك التي لم ينفذ منها الطرف الإسرائيلي إلا ما يخدم مصالحه، فيما خرق كل بنودها التي يمكن أن تخدم الطرف الفلسطيني، بشكلٍ قتل أي أمل في سلام حقيقي وعادل حتى اللحظة. وهنا تتجلى أيضاً أشارة الفارق الجوهري في مفهوم الصراع الذي يمكن أن يجد حلولاً مناسبة لدينا نحن العرب فيما يخص القبول بالتعايش، ما يؤكد أن تطرف فكرة كون الصراع في الأساس، هو صراع وجود لا صراع حدود، يتجلى بكل صوره لدى الطرف الإسرائيلي لا الطرف العربي.
أخيراً أقول، نعم ديننا ينهى عن القتل في أماكن العبادة، ولكن علينا أولاً أن نسأل الجلاد لا الضحية عن الأسباب. وهنا يجب على المجتمع الدولي، بما فيه الكيان الاسرائيلي، أن يعيد النظر جيداً فيما يدور من تداعيات خطيرة، لو لم يجد حلاً لها، فليعلم الجميع، شرقاً وغرباً، أن المواجهة حتماً ذاهبة نحو مواجهة فانية ما بين مقدساتنا ومعابدهم في سياق معادلة صفرية تماماً، تعني إما نحن وإما هم.