الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ذكريات نائمة بقلم: نزهة الرملاوي

عشّاق المدينة (5)

2018-01-08 07:38:54 PM
ذكريات نائمة
بقلم: نزهة الرملاوي

جلست سميرة على كرسيّ يتأرجح بها، وراح يهزّ بداخلها حكايات طفولية تعود إلى ماضٍ ما نسيَتْه، لملمت أوراقها وما فيها من ذكريات نائمة، وراحت توقظ غفوتها المستلقية في أدراج النّسيان، وأخذت تسأل نفسها: لماذا يأخذنا الحنين في كلّ اغتراب إلى سنين عابرة من حياتنا؟ ولماذا نحنّ إلى أشياء عزيزة أحببناها؟ وندرك بعد الغياب أنّها سرقت من عمرنا الفرحة والأحلام وسافرت بها دون رجعة.

 

استيقظتْ من شرودها، وقرّرت أن تزور البلدة القديمة، بعد سنين من الغياب، نارٌ من الأشواق تتأجّج في داخلها، والذّكريات تتسابق في خيالها لتلوّن أمامها طريق الوصول، أوّاه من قلب يعتصره ألم الفراق!

وصلت المركبة من جسر الملك حسين في أريحا، وحطّت بها في شارع نابلس، بالقرب من محطة الحافلات المطلّة على باب العامود، رأته من بعيد، سمعته يناديها، يغنّي ويرقص فرحًا بلقائها، ها هو يفتح ذراعيه ليضمّها إلى صدره ويعلو بها نحو السّماء.

 

مشت، وتأمّلت بعينيها المشتاقتين الأدراج من تحتها، حتى وصلت باب العامود، واستغربت من التّغيّرات التي عبثت بوجه المدينة، تغييرات وتقسيمات طرأت عليها في غفلة من الزّمن، حين كانت بعيدة عنها.

 تذكّرت أترابها، ولّمة الأحباب والجيران، تلك القلوب الدّافئة في برد الغياب، سألت نفسها: أتراها تذكرني الحارات وتلك السّيدة إذا ما رأتني بعد هذه السّنين؟

 

قالت بصوت خافت: نحن في زمن أصبحت فيه المشاعر كالصّورة القديمة باهتة الألوان، والوجوه فيها متغيّرة الملامح والتّقاسيم، عبثت بها سنو النّسيان فزادتها غرابة وتشويها.

 

صرخت أعماقها وقالت: أرجوك أيها الزمن، لا تفجعني بحبّ من حملت لهم النّور في قلبي لأنير طريق ذكراهم، وتفاجئني بظلمات صنعت للحدّ من تسارع خطواتي المتقدّمة لأحلى لقاء.

 

أرجوك أيّها الزمن لا تعبث بأحلامي وتبعد عني فرحة اللقاء، فكم حلمت أن أغفو على صدر تلك السّيدة، وأسمع نبضا يشبه النّبض في صدر أمّي.

 

طرقت سميرة الباب، وحمدت الله أنّ الباب الخشبيّ الضخم ومطرقته لا يزالان على حالهما، فتحت سيّدة المنزل الباب وأهّلت بالزائرة قائلة: أهلًا وسهلًا، من أنت؟

 

ردّت سميرة بعد نظرة تخفي وراءها أمنية انتظار لرؤية وجه آخر قائلة: أنا سميرة بنة أم عبد الله، جارتكم، كنّا نسكن في هذا البيت قبل أربعين عامًا، كنت أود السّؤال عن الخالة أم أيمن، جارتنا وصديقة أمّي رحمها الله.

 

ردّت السّيدة: رحمها الله، أم أيمن جدّتي، تفضّلي ...أهلًا وسهلًا.

سألت سميرة:أين هي جدّتك الغالية؟

 

أتدرين أنّ صورتها ما زالت كما هي في ذاكرتي؟ سيّدة جميلة كانت تمشّط شعرها وتضع على أحد جوانبه وردة جوريّة حمراء، وتزيّنها بنبتة خضراء تسمّى (كفّ الهوا) في بعض الأمسيات، تمامًا كما كانت تفعل أمّي في ذلك الزّمن الجميل.

 

ردّت السيدة: رحم الله زمنًا لن يعود، إنّها ترقد في حجرتها تنام كالطّفلة على سريرها القديم، لقد جاوزت جدّتي الثّمانين من عمرها، وتحتاج إلى الكثير من الرّعاية والاهتمام، وأنا أتولى الأمر بالتّناوب مع أختي، والله المعين.

ردّت سميرة: أعانكم الله وتوجّ جدّتكم بالصّحة والعافية.

 

نهضت سميرة عن مقعدها وأخذت تتجوّل في السّاحة التي تتوسّط البيوت وتحضنها، رفعت رأسها إلى سماء المبنى لتنظر شمس الظّهيرة، قبل أن تختفي وراء القباب، وقالت: الحمد لله، كلّ شيء على حاله إلّا الجيران، ما عادت الوجوه ذاتها التي احتفظت بها في ذاكرتي منذ الطّفولة، يا إلهي.. هذا بيت أم عاهد، وهذا بيت أبي محمد النّوري، وهذا بيت أم ياسر، وذلك البيت العلوي للحاجّة أم حسن وابنها حسن، والطّابق الثّالث تسكنه أم سليم وبناتها، ضحكت الصّبية بتعجب وقالت: لا أحد هنا... الحاجّة أم حسن توفّيت هي وزوجها قبل أكثر من عشرين عامًا، وابنها حسن بنى منزلا كبيرا خارج المدينة ورحل، لكنّه يأتي لجني إيجار البيوت من السّاكنين الجدد، كذلك حال أم عاهد وأم ياسر وأبي محمد النّوري، كلّهم رحلوا وتركوا بيوتهم كعنوان، يأتون إليها بين الحين والآخر ليحافظوا على هويتهم المقدسيّة، لأنّهم في الأصل سكّان البلدة القديمة، وإذا ما عرف أنّهم يقطنون خارج حدود بلدية القدس (كما تحلو لهم التّسمية والتّقسيمات) تؤخذ منهم الهويّة الزّرقاء، ويُمنعون من الإقامة في البلدة، أمّا جارتنا الحاجة أم سليم (الختيارة) فلم تترك البيت، ما زالت تعيش فيه مع ابنتيها سعاد وإسعاد، قاطعتها سميرة متسائلة: ألم تتزوجا؟ لقد كنت صغيرة عندما رحلنا من المنزل وكانتا أكبر منّي سنّا، ردّت السّيدة: لا، سعاد أكملت دراستها وتوظّفت، وإسعاد تخدم أمّها العجوز بعد موت والدها.

 

تذكّرت سميرة ما كان يدور في طفولتها حول تأتأة أم سليم وعدم إفهامها للكلام في أثناء تحدثّها مع الآخرين، فقد سمعتهم يقولون ذات يوم: إنّ أم سليم فقدت ابنها الشّاب في حرب النّكسة في العام السّابع والسّتين من القرن الماضي، فلم تحتمل الصّدمة، تلاشت الآمال في حياتها، وهربت الحروف من كلماتها فما استطاعت أن تعيدها بعد أن تبعثرت؛ إثر افتقاد الغوالي.

 

شهقت سميرة شهقة الملهوف وقالت: يا إلهي...هذا بيتنا ...حبيبي بيتنا...ها هي النّافذة الّتي تطلّ على أعماق قلبي كل يوم، وهذا هو الباب الذي يكتبني كالتّاريخ في الذّاكرة، سأطرق الباب، اسمحي لي يا عزيزتي أن أطرق الباب، أيّتها السّيدة لا تلوميني إن فعلت.

 

تدحرجت دموعها شوقًا وألمًا... بدأت تتحسّس الحيطان النّاظرة إليها، والأبواب التي غرقت خلف المواجع وآهات الزّمن، ورحلت إلى سنين بعيدة تختبئ في ذاكرة المكان.

نظرت إلى السّيدة وقالت: أرجوك أيقظي جدّتك أم أيمن، أرجوك أيقظيها...

أريد أن أغفو على صدرها لأسمع نبضًا يشبه النّبض في صدر أمّي.