اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل لم يكن خطوة بمعزل عن الرؤية التدميرية التي يمتلكها طاقم ترامب الأصولي المتطرف حول القضية الفلسطينية، بل إنها عنوان لمخطط يجري تنفيذه بخطى متسارعة بهدف تصفية القضية الفلسطينية وعناوينها الرئيسية: الأرض، الهوية، والإنسان. بدأ ترامب بالقدس وأخرجها من النقاش كما قال، ثم أعلن عن تقليص مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في موازنة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي تعاني أزمة مالية خانقة منذ سنوات، بالإضافة إلى التهديد بتجميد المساعدات المقدمة للحكومة الفلسطينية ومساعدات وكالة التنمية الأمريكية للمجتمع المدني والقطاع الخاص في محاولة لابتزاز القيادة الفلسطينية.
وقد فرض موقف الإدارة الأمريكية على المجتمع الدولي، وتحديدًا الاتحاد الأوروبي، مواجهة مع إدارة ترامب لم تكن تريدها وحاولت تجنبها بكل الأثمان إلى أن أتى قرار القدس الذي هدد بمنطقه وسياقه السياسي المنظومة الدولية برمتها. العالم وقف مع فلسطين وساند الموقف الفلسطيني المنسجم مع الشرعية الدولية ليس حبًّا بالفلسطيني أو من منطلق أخلاقي صرف، بل لأن هذه المنظومة وقفت أمام اختبار مصيري عنوانه فلسطين والحقوق الفلسطينية؛ وذلك بسبب ولادة القضية الفلسطينية في أروقة المنظومة الدولية تلك؛ ولأن النهج الفلسطيني السياسي التزم بالمنظومة على عِلّاتها وقصورها منذ إعلان الاستقلال في العام 1988 وبذلك جرد المجتمع الدولي من حجج التهرب كلها.
مواجهة قرار ترامب لم تقتصر على الأسرة الدولية، بل امتد إلى عمق الساحة السياسية الأمريكية التي انقسمت لأول مرة منذ عقود طويلة في آرائها حول سياسة تمس إسرائيل وتخلت عن الإجماع الحزبي والاجتماعي المعهود في هذا الخصوص.
وفي إطار التحولات الجذرية التي أحدثها انتخاب ترامب في الساحة السياسية الأمريكية وحالة الاستقطاب الكبيرة الموجودة، أعرب عدد من أعضاء الكونغرس والشخصيات السياسية والعديد من مؤسسات المجتمع المدني، بما فيها جماعات يهودية تقدمية، عن رفضهم لإعلان إدارة ترامب.
في هذا السياق، يمكن القول إن الموضوع الفلسطيني ولأول مرة منذ عقود، أصبح جزءًا من النقاش الأمريكي الداخلي وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار، الأمر الذي فرض على وسائل الإعلام التقليدية تناول الموضوع بشكل أشمل مما اعتادت عليه.
في الأثناء، المواقف الفصائلية الفلسطينية لم تخرج عن الروتين والعموميات، بل إنها تكرر في مضمون ما صدر عن أصحابها من عموميات المواقف المألوفة منذ عقد أو عقدين مع اختلاف الديباجات والمسوغات.
هذه المواقف لم تخرج عن سياق الخطاب الأسير للخلاف الفلسطيني الداخلي الذي نجم عن توقيع اتفاق أوسلو قبل أربعة وعشرين عامًا وتتجاهل المتغيرات الكبيرة في حجم وتأثير ومصداقية فصائل العمل الوطني في نظر الرأي العام الذي وصل به الإحباط حد اللامبالاة وتجاهل الحراك السياسي باعتباره تكرارًا مملاً لتحركات سابقة.
ونحن على أعتاب اجتماع المجلس المركزي، يفترض من الفصائل السياسية أن ترتقي لمستوى الأحداث المتسارعة وذات البعد الاستراتيجي دوليًّا وإقليميًّا وفلسطينيًّا. في هذا السياق، مطلوب من الفصائل الفلسطينية النضوج السريع والالتحاق بركب المتغيرات السياسية والاجتماعية الحاصلة على كلّ المستويات. من هذا المنطلق، يصبح واضحًا أنّ من يصر على التعامل مع المعطيات الأخيرة بمنطق منفصل عن المعطيات الإقليمية والدولية فهو يحكم على نفسه بالتهميش السياسي.
نحن في واقع إقليمي جديد ينشر فيه الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي مقالاً بالشراكة مع كاتب عربي وفي وسيلة إعلام عربية للهجوم على فصيل فلسطيني بمنطق إسرائيلي عنصري خالص. الشخصيات الإسرائيلية المتطرفة في عنصريتها وعدائها لكل ما هو فلسطيني باتت تزور غرف الجلوس العربية وتخاطبهم بالعربية وتروج للأجندة الإسرائيلية بسهولة منقطعة النظير. المواقع الإسرائيلية الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي تزدحم بالمتابعين والمتفاعلين من الفلسطينيين والعرب.
نحن في حقبة عنوانها الخلاص الفردي، وتسقط فيها الحسابات العربية والقومية للأنظمة لصالح الحسابات الآنية والضيقة المرتبطة بالاصطفاف العربي-الإيراني الحاد. هذا الواقع واضح وضوح الشمس في المواقف الباهتة السياسية وانعدام الأفعال الرادعة حتى لدولة هامشية مثل غواتيمالا التي لحقت بالولايات المتحدة لاعتبارات ضيقة وعقائدية ومصالح شخصية مرتبطة برئيس الدولة الفاسد.
العالم يساند الموقف الفلسطيني؛ لأنه منسجم مع قواعد اللعبة الدولية التي يريد ترامب تقويضها. والاتحاد الأوروبي على علاته ومواقفه السياسية المترددة فيما يخص الاعتراف بفلسطين وغيرها من المواقف يمكن أن يعبر هذا الحاجز الوهمي من الجُبن السياسي إذا بقي الموقف الفلسطيني على صلابته ورزانة طرحه. لكن من يروج لإمكانية إعادة الواقع السياسي والميداني إلى ما قبل اتفاقيات أوسلو يكون شريكًا في صناعة الوهم ونشر العبث السياسي وغير قادر على استيعاب المعطيات السياسية الجديدة الماثلة أمام من يريد أن يرى الواقع دون تجميل.
المطلوب البناء على ما حققناه، وليس هدم ما بنيناه. المطلوب ليس إهداء إسرائيل وترامب تقويض الممثل السياسي الشرعي للشعب الفلسطيني بحيث يسهُل إنهاء الملف الفلسطيني وإلى الأبد من خلال حل إقليمي مبني على رفض مبدأ حق تقرير المصير والاستقلال الوطني الفلسطيني. المطلوب تعزيز التمثيل الفلسطيني وتقوية موقفه داخليًّا حتى لا يسمح لهذا السيناريو بالمرور. المطلوب قراءة ما بين السطور في الصورة الكبيرة إقليميًّا ودوليًّا وأمريكيًّا واستثمار الظروف لبناء تحالفات جديدة قادرة على حماية الموقف والحق الفلسطيني. المطلوب هو البناء على المواقف الدولية الراهنة لإعادة تعريف الاحتلال الإسرائيلي باعتباره استعمارًا غير شرعي وإعادة تشكيل النظام السياسي بشكل يخدم الأجندة الفلسطينية ويزيد الدعم الدولي وليس إعفاء الدول من الاستمرار في دعمها بتبني مواقف وشعارات تقفز بالحالة الفلسطينية في الهواء وإلى المجهول. هذا ممكن ومتاح ومن يشيع لاستحالة ذلك شريك في صنع وتسويق الهزيمة.