المتابع لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تختلط عليه اليوم الحقيقة، ولم يعد لديه القدرة على تأكيد الواقعة أو نفيِها في ظلّ حرب كلامية، ومرافقة لحروب بالطائرات والصواريخ، تدمّر الأخضر واليابس وتفني البشر والحجر والدول تنبئ بأن الأمة العربية والأمة الإسلامية سائرة في طريق الهاوية، فليس من عقلاء في هذه الأمة يتدراكون الأمر وإن كان منهم قلّه اصطف بعضهم خلف فكرة في مواجهة البعض الآخر، وجند للمواجهة خبراء مأجورين من العرب والمسلمين وغير هؤلاء جلّ همه أن يدمر خصمه الذي هو جزء منه لا لشيء سوى ليزهو ويصيح كالديك على "مزبلته" وهو يرى الكارثة التي تنتظره وتنتظر خصمه ولا همّ له غير المحافظة على "مزبلته".
وزوبعة تسريبات ضابط المخابرات المصري الصغير تندرج في هذا الإطار وقد استحوذت على نشرات الأخبار وتحليلات الخبراء المنقسمين، بين مصري وقطري وسعودي وإمارتي وإيراني.
الزوبعة دليلٌ على تدني مستوى الإعلام العربي والدولي واستخفافه بعقل المواطن، وهي دليل على تدني مستوى العلاقة بين الإعلاميين وأجهزة الأمن العربية أيضا.
وليس أمرا جديدا أن تكون القضية الفلسطينية هي مادة الجدل الإعلامي والسياسي منذ أن أنشِئت الكيانات العربية وأجهزتها الإعلامية والأمنية والحقيقة أن جوهر هذا الجدل، لم يكن في أي مرحلة من مراحله يصب في صالح القضية الفلسطينية ونصرة الشعب الفلسطيني في مواجهة المؤامرة الصهيونية الاستعمارية الكبرى، التي استهدفت وجوده ووطنه ومقدساته، وإنما للمتاجرة بالقضية أمام شعوب هذه الأنظمة وتغطية على العلاقات السرية القائمة مع الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية والاستعمار قبل وبعد قيام هذا الكيان.
وترى الأنظمة العربية المتهالكة اليوم، أو هكذا توحي إليها إدارة ترامب، أن الفرصة سانحة للتحلل نهائيا وفي العلن من الارتباط بالقضية الفلسطينية وليس إيجاد حل لها يحفظ بعض ما تبقى من حقوق للشعب الفلسطيني.
وهكذا يجري الحديث في وسائل الإعلام المتخاصمة وعلى لسان محللي وخبراء الطرفين عن موافقة مصرية سعودية مسبقة على القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل رغم النفي القاطع والجازم لمصر والسعودية لما يقال عن موافقتهما على قرار ترامب الذي يندرج ضمن صفقة القرن التي لم يظهر منها حتى الآن سوى صفعات متتالية لطموحات الأمة العربية والإسلامية في التحرر من التبعية لأمريكا وغير أمريكا.
وتأتي بعد ذلك التسريبات الإعلامية عن اجتماع عمّان من أن مصر والسعودية، رفضتا توجه الأردن لعقد قمة عربية طارئة لبحث تداعيات قرار ترامب بشأن القدس، بحجة أن هناك قمة عربية عادية ستعقد في مارس القادم ما يعزّز الاعتقاد بأن قرار ترامب حول القدس جاء بعد تشاورٍ مع قادة عرب لم يعارضوا صراحة التوجه الامريكي.
وطالما أن الأنظمة العربية على مدار تاريخها واجتماعاتها وتوافقاتها واختلافاتها لم تقم بأي عمل جديّ من شأنه أن يحفظ لفلسطين عروبتها وقدسها، فما أهمية عقد قمة عربية طارئة أو عادية، والجميع يدرك أن قرارت هذه القمم منذ القمة الأولى ومرورا بقمة الخرطوم و"لائاتِها"، ووصولا إلى قمة بيروت والمبادرة العربية ليست سوى حبر على ورق لا تقدّم ولا تؤخر في مسار الأحداث التي ترسمه الولايات المتحدة وإسرائيل حليفتها الوحيدة في المنطقة وحتى في العالم أجمع كما ظهر من تصويت مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن التركيز على رفض السعودية ومصر عقد قمة عربية طارئة يأتي من اعتقاد أن البلدين هما مركز القرار في المنطقة لما يتمتع به البلدان من مؤهلات القيادة واعتبارهما رجاء الأمة الأخير، وأعلنهما من وقف التدهور في الهاوية والخروج من حالة التردي والانحطاط غير المسبوق الذي يعيشه النظام العربي.
ندرك حجم المشاكل التي تعاني منه البلدان في الداخل والخارج ومع دول الجوار عربية وغير عربية والمؤامرت التي تستهدف استقرارهما ولكن ذلك لا يعفيهما من دورهما ليكونا مرافعة للوضع العربي المتردي وخاصة للقضية الفلسطينية.
ولا يكون ذلك بخطب ود رئيس أمريكي يشكك قادة العالم بقدراته العقلية والقيادية وارتهانه لصهره كوشنير الذي لا يختلف عنه من ناحية القدرات وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار الاعتراف بالقس عاصمة لإسرائيل، وما أظهره القرار الأرعن من عزلة الولايات المتحدة على الساحة الدولية ورفض لقرارها من أقرب حلفائها.
وما يجب على الحكام العرب أن يدركوه أن مصدر قوتهم يكمن في ثقة شعوبهم بهم وليس في إدارة ترامب المتورطة في فضائح تلاحقها وقد تودي بساكن البيت الأبيض وعزله.
كما عليهم أن يدركوا أن إسرائيل، هي العدو المحتل للأرض الفلسطينية والعربية والدولة العنصرية لا تصلح أن تكون شريكا لهم في حلف عسكري او اقتصادي لأنها في حقيقة أمرها، عبارة عن مشروع استعماري استيطاني توسعي حدوده غير معلنة وتطمح أن تكون هذه الحدود من الفرات إلى النيل.
وما يجب التأكيد عليه أن محاولات التضحية بفلسطين والقدس بموجب ما يعرف بصفقة القرن لصالح إسرائيل والتحالف معها لمواجهة عدو مفترض مسلم وجار، له ما له وعليه ما عليه، لن يُكتبَ لها النجاح أولا لأن شعب فلسطين لا زال مرابطا على أرضه ولديه الاستعداد والإرادة للتضحية من أجل صون حقوقه المشروعة والثابتة في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وحق العودة للاجئين.
وثانيا لأن قيادة الشعب الفلسطيني ترفض بوضوح وصلابة الانخراط في صفقة مشبوهة وترفض قرار ترامب حول القدس أو التفريط بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني وهو ما يشكل إحراجا لمن يفكر من حكام العرب بمسايرة ترامب وكوشنير على حساب حقوق شعب فلسطين وأولها في مركزها مدينة القدس, وثالثا فإن الشعوب العربية والإسلامية ورغم ما تتعرض له من قمع وإرهاب وتضليل إعلامي وتزوير للتاريخ، ما زالت القدس والقضية الفلسطينية تسكن في وجدانها وعقيدتها ولن تتساوق مع حكامها في خذلان فلسطين والقدس لصالح ترامب ونتنياهو، وهذه الشعوب لا ترى تهديدا وعدوا لها، يستولي على خيراتها وثرواتها غير الولايات المتحدة وإسرائيل.
إن قليلا من التفكير والوقوف مع النفس يقود ببساطة إلى أن ترامب يعاني من مشكلات داخلية في بلده وتهدد استمراره في البيت الأبيض حتى نهاية ولايته وهو يتخذ قراراته تحت تأثير هذا الوضع ويرى أن العربي واليهودي والمسيحيين والإنجيليين والمؤيدين لإسرائيل وعلى رأسهم نائبه ماتس، يمكنهم مساندته في تجاوز مشاكله الداخلية. لذا فإن رئيسا أمريكيا في مثل هذه الحالة لا يمكن أن يكون سندا أو منقذا لبلد عربي من مشاكله، والحال نفسه ينطبق على بنيامين نتنياهو الذي تطارده التحقيقات القضائية بالرشوة والفساد وتطارد ائتلافه الحكومي الخلافات التي تنذر بتفككه ومغادرته الحكم.