روي عن ولّاد ابن حرب، وهو قائد عسكري شهدت له ساحات الوغى في غابر الأزمان، أنه كان يقصد دكاكين الورّاقين ليلاً، فصادف أن التقى واحدًا من أصحابها ذات ليلة.. فسأله صاحب الدكان: ما بك؟ أجدك في غير موعد الفتح والإغلاق؟ فرد ابن حرب قائلاً: نقرأ ما تطبعونه صباحًا، فنهجر النساء، وندعو القوم ونجمع السلاح لنخرج إلى الذود عن ديارنا، فلا نجد إلا صحراء خالية وشمسًا حارقة، بخلاف ما هللتم له وحذرتم منه، فوددت لو أنظر ما يُدبَّر بليل.
وعليه؛ نؤكد للقارئ كما للمستمع والمشاهد: عندما تسمع أو تشاهد تسريبًا هنا أو هناك، لا تحزن ولا تبتسم، ولكن ركز على إعمال العقل، مصحوبًا بالحس التحليلي، لا لتشاهد أو تسمع فقط، وإنما لتفهم أيضًا.
ما أثير حول تسريبات صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، قبل أيام، استخفاف بالعقول يدعو للغثيان، ولكن قبلاً يدفعنا جميعًا لبعض الملاحظات التي يجب ألا تنفصل عن السياق العام لما نتلقاه من "تسريب" إن كان صحيحًا، علما بأنّ المكالمات صحيحة، وهذا أمر واضح جدًّا، ولكنها أتت في سياق الاستدراج المتعمد لتسجيل موقف سياسي بعينه، والأمر هنا ليس دفاعًا عن هذا النظام أو غيره، ولكن احتراما لأنفسنا وعقولنا.
أول هذه الملاحظات، علينا الانتباه جيدًا للسياق العام الذي تعمل فيه هذه الصحيفة منذ العام ٢٠١٠، وهذه عينة منها:
1- تحدثت الصحيفة في ١٣-٢-٢٠١١ عن ثروة مبارك وصعوبة الوصول إليها، وأثبتت كل هذه السنوات حتى كتابة هذا المقال أن لا ثروات مهربة للرئيس المصري السابق.
2- في شهر آذار مارس من العام ٢٠١٥ تناولت ما قالت إنه دعم إماراتي للرئيس السيسي كي يصل إلى الحكم، فيما كان الدعم الإماراتي والسعودي دعمًا علنيًّا لم تخجل منه الدولتان، ولكن طريقة تناول الموضوع وصياغة الخبر، تدفع القارئ للشك أننا أمام مؤامرة كونية.
3- في أيار من العام ٢٠١٥ أيضًا تتحدث "نيويورك تايمز" عن أكثر من عشرين تسجيلاً مسربًا لنظام السيسي ومخابراته، فيما لم يطلعنا أحد حتى اللحظة كيف صنعت هذه التسجيلات.
4- تحدثت "نيويورك تايمز" في ١٥-١٠-٢٠١٦ عن شراء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يختًا بقيمة ٥٠٠ مليون يورو. وبعد أشهر قليلة تناولت تقريرًا يتحدث عن ممتلكات الملك سليمان وأبنائه. وفي نهاية العام وتحديدًا في ١٦-١٢-٢٠١٧ تحدثت الصحيفة الأمريكية عن شراء ابن سلمان لأغلى قصر في العالم.
السياق الواضح في عرض هذه الأمثلة المذكورة، إنما يعطينا صورة عن انحياز هذه الصحيفة الأمريكية، صاحبة الملكية الصهيونية، لاتجاه بعينه في صراع المحاور المشتعل في منطقة الشرق الأوسط، وإلا ما الذي يجعلها شبه متخصصة فقط في الشأنين السعودي والمصري؟
أما إن تركنا هذه الملاحظات العامة على الصحيفة، لننتقل إلى ما قيل إنها تسريبات سنجد عديد الملاحظات التقنية من جهة، والسياسية من جهة أخرى.
أما التقنية فهي:
1- فارق وضوح الصوت بين المتصل والمتلقي في كافة الاتصالات، يشير بوضوح كامل يدركه كل من يعمل في مجال الصوتيات، أن المتصل وهو المدعو " أشرف الخولي" يقوم بهذه التسجيلات من استوديو بث بشكل متعمد، ولا اعتقد أنَّ ضابطًا مسؤولاً يقوم بتسجيل مثل هكذا مكالمات لنفسه.
2- المدعو "أشرف الخولي" أخطأ في غير مرة وهو يوجه دفة الحديث باتجاه ما كُتب له نصًا، فنجده يبتعد عن العامية المصرية، حينما ينطق على سبيل المثال لا الحصر كلمة "ثم" التي تقال في العامية المصرية "سمه"، ليتكرر الأمر في استخدامه لمفردة "لذلك" فضلاً عن استخدامه جملاً كاملة باللغة العربية المكتوبة وليست العامية وهذه نجدها وهو يقول: "الانتفاضة لا تصب في مصلحة الأمن القومي المصري". ولنا أن نلاحظ طريقة كلام عزمي مجاهد، وهو يقول: "أنا من أول الناس اللي خيطوا حماس ودغدغ دين أبو حماس" لننتبه لفوارق العامية المصرية بين هذه الاستخدامات، المتصل الذي يقرأ مكتوبًا له بغية تحقيق هدف بعينه، والمتصل به الذي يتحدث بتلقائية المواطن العادي.
3- المنتبه جيدًا لمحتوى هذه المكالمات المزعومة، سيلحظ بسهولة التركيز المبالغ فيه على تكرار جملة مثل جملة "هتفرق إيه القدس عن رام الله"، ما يشير بوضوح إلى تقصد القائم على التسجيل الإساءة، خاصة وهو يرفق هذه الجملة بمقولة: بأنّ هذه هي توجهات الدولة.
4- في مكالمته مع الفنانة يسرا، نجدها تحاول جاهدة إنهاء الاتصال، فيما هو يحاول جاهدًا تكرار جمل بعينها فقط كجملة "هتفرق إيه القدس عن رام الله - والقدس عاصمة إسرائيل" غير أنه وقع في خطأ غير مقصود حينما رد على طلبها إرسال ما يريد على الواتس آب، حينما قال: لا لا إحنا بنفضل الكلام المباشر أفضل"، وهو بالطبع كذلك لأن الهدف تسجيل هذه المكالمات وبثها بوصفها موقفًا رسميًّا، علما بأنَّ أحدًا لم يتعرف على هوية المدعو "أشرف الخولي" حتى اللحظة.
الملاحظات الفنية، ومنها:
1- عزمي مجاهد وسعيد حساسين من مذيعي الدرجات الدنيا في الوسط الإعلامي المصري، وقد يصنفان من أقل المتابعين في مصر، فكيف لدولة كبيرة بوزن مصر أن تعتمد على هذه الفئة.
2- مفيد فوزي الذي تم إبعاده عن المستوى السياسي بوصفه أحد المحسوبين على نظام مبارك، لا يقدم أية برامج حاليًّا، ولا تربطه أية علاقات مع المستويين السياسي والعسكري في نظام الرئيس السيسي، فكيف لها أن تعتمد على شخص من خارج الدائرة.
3- الفنانة يسرا والتي تُعد من المقربين للنظام السياسي، هل يعقل أن تأخذ توجهات الدولة عبر الهاتف؟ وهل يعقل أن يتم تعمد الاتصال بها وهي على سفر برغم الإعلان إعلاميًّا عن كونها ضيفة شرف مهرجان دبي؟ فضلاً عن كونها ليست مذيعة، ولا تقدم أية برامج تذكر على الساحة المصرية.
الملاحظات السياسية:
1- النظام المصري في التراتبية العسكرية كما كل أنظمة المنطقة، لا يعتمد بأي شكل من الأشكال على مستوى نقيب كي يقوم بمثل هذه المهمة، ولنا ملاحظة أن الناطق الإعلامي لأغلب الأجهزة الأمنية والعسكرية لا تقل رتبته عن عقيد.
2- يعتمد النظام المصري في ترسيم سياساته على أجهزة بعينها أهمها، جهاز المخابرات العامة، وليس جهاز المخابرات الحربية.
3- استخدام اسم "أشرف الخولي" وهو اسم وهمي لشخص لا وجود له في أي من أجهزة الدولة لم يكن بريئًا، حيث توجد هناك شخصية دبلوماسية تحمل هذا الاسم، ولكنه كان سفيرًا لمصر في بريطانيا، لا نقيباً في أجهزتها الأمنية.
4- هل يعقل أن يناقش جهاز بحجم جهاز المخابرات المصرية قضايا مصيرية بوزن قضية القدس عبر الهاتف؟
5- إن طرحنا سؤالاً: لماذا لم يتم الاتصال بالوجوه الإعلامية الأكثر حضورًا في مصر كـعمرو أديب، ولميس الحديدي، منى الشاذلي، إبراهيم عيسى، وائل الإبراشي، تامر أمين، يوسف الحسيني؟ ستكمن الإجابة في كون هذه النخبة ترتبط بعلاقات وثيقة بمستويات قيادية أكبر كثيرًا من مستوى نقيب، ولذلك لم تجرِ أية محاولة مع أحد منهم لهشاشة فكرة أن يقوم بمثل هذه المهمة ضابط برتبة نقيب.
أخيرًا، نحن أصحاب قضية يجب أن نعلم تمامًا أن أحد أهم أهداف مثل هكذا فبركات إعلامية، هو إحداث حالة إلهاء عن القضية الأساس ألا وهي قضية إعلان ترامب القدس "عاصمة لدولة الاحتلال"، فضلاً عن محاولة الجهة المفبركة هنا، الدفع باتجاه بث روح الهزيمة وإحداث شروخ سياسية فلسطينية داخلية، وأخرى مع دول الإقليم في ظل صلابة ووحدة الموقف الفلسطيني على المستويين السياسي والشعبي بشكل قل نظيره.
غير أن النظام المصري لا يملك ترف أن يسمح بوصول الأمر إلى هذا المستوى المتدني من التعاطي مع قضية مركزية بحجم قضية القدس، ليس لأنه نظامًا عربيًّا يحمل لواء الجهاد في وجه الاستعمار الخارجي، ولكن لأن للوطنية المصرية حضورًا لا يمكن لأي نظام كان أن يتجاهلها.
ختامًا، ورد في كتاب صناعة الخبر في كواليس الصحافة الأمريكية: إنَّ الصحافة ذاتها أصبحت عاملاً مساعدًا فعَّالاً في "تجارة الأخبار"، ويمكن اعتبار الصحفيين "أيادي عاملة مستأجرة في صناعة تدر أموالاً كثيرة" انتهى الاقتباس لنفكر جيدًا من هي الجهة المعنية بشراء صالات التحرير في الغرب، وبخاصة بريطانيا وأمريكا بهدف توظيفها سلاحًا فعالاً في وجه خصومه السياسيين، وفي كل الحالات وبكل الأيادي على حساب القضية الفلسطينية.