معنى أنْ تكون صحراويا محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري

1.

لا يخفى على أحد العلاقة العميقة بين الإنسان والمكان، ولا ما خصصته الدراسات النفسية والفلسفية والاجتماعية عن هذه الرابطة. ودون أنْ أركز على ما كُتب عنها، ولا على تأثيرها العام على كل إنسان؛ سأتكلم عن المعنى والصحراء، عن هذه الأخيرة باعتبارها فضاءً على هدوئه الظاهر يختزن الكثير من الصخب وينتج العديد من المعاني كما يقتل بعضها على طريق العدمية. ولأنني صحراوي بالولادة والعيش سأطرح رؤية ما، انعكاس هذا النوع من المكان علينا، سأستعير ببساطة صوت الصحراء.

2.

الصحراء إيقاع زمني مختلف، على قسوته وقلّة إمكاناته الطبيعية يفيض بالكرم والمحبة. ومن ثمة هي باب مفتوح على التناقضات الرهيبة التي يعيشها الإنسان، ويحملها معه، والتي لها يد أولى في تكوينه وبناء رؤيته إلى العالم. لكنها إيقاع زمني بطيء، يمنح معنيين متناقضين تماما؛ سعة الوقت، ولذلك قد لا يصدّق من يعيش في مدن متسارعة الإيقاع أني قد أقضي ساعة لإعداد شاي صحراوي معتّق، وغيري قد يأخذ منه أكثر، على نار هادئة أو حتى على الجمر. أردت القول إن الوقت هنا وفير جدا، كأنه الأبد. لكن في الآن ذاته رتيب وقاتل كأنه النهاية، مملّ يجعلك فعلا تتمنى لو أنك حجر كما صرخ في عمق الصحارى تميم بن مقبل:

"ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر..".

3.

ثم إن الصحراء على امتدادها الرحب يمكنُ أنْ تضيق في أية لحظة. كأنْ تهجم على مدينتك زوبعة سوداء. وإذ أصفها بالسواد لا أبالغ أبدا لأنها من قوتها وقتامتها تحجب الضوء في عز النهار، وتمد ظلا رهيبا وقاتما يطال كل شيء حتى لا ترى أمامك مترا واحدا أحيانا. لكن هذا الضيق سرعان ما يؤثث في دواخلك فرحا كبيرا حين يشرع في الانفراج. لذلك يفرح صحراوي بزوال زوبعة فرحه بغيمة ماطرة أو مساحة خضراء.

4.

تضعك الصحراء في عمق التناقضات، تفتح قلبك على الفناء الموحش بقلة ما تجود به، وتزرع فيه تلك الرغبة الكبيرة في الحياة. ينتهك الصحراوي المتعة كما يجرع عطشان ماءه أو سكير خمره. يطاردها، ينقّب عنها، ويفرح بها كما لا يمكن تخيله. لذلك ترتبط الصحراء بالرحلة؛ الصحراوي رحّالة بالولادة، بوصلته قلبه وطريقه المتاه. ولأنه هكذا تقصر في عينه أطول المسافات. تسأل شخصا في مدينتي هل مدينة بشار بعيدة، يجيبك أنها هنا فقط، مشيرا بيده، وهي على قرابة 400 كلم. فبقدر ما تضيق تمتدّ، وبقدر ما تشح تجود بأمور أخرى ربما ليست ذات قيمة أصلا.

5.

والغريب في هذا المكان أنه رغم التشابه والنمطية اللذين هما من صفاته العميقة؛ دائما، وعبر التاريخ، قدّم مبدعين مختلفين جدا رؤيتهم قافلة تشق رحلتها في عميق العدمية تبحث عن معنى، أو ربع معنى حتى، بل تشهد على موته أحيانا بطريقة غريبة. هنا قد تكون عدميا بالفطرة، ترى المعاني التي تفيض بها الأمكنة الأخرى تبخل بها أرضك ويضنّ بها موطنك. ولذلك يموت المعنى كل يوم هنا، لكنْ...قد تحييه فرحة صغيرة، مطر، يوم سماؤه مرايا نقية بلا غبار.

6.

هذه هي الصحراء، ولو كانت المساحة تسمح بالحديث أكثر لما جف الحديث. الصحراء وجعي بالمنفى في التشابه وفرحي بالإقامة في اختلافها السري، والعميق. هكذا هو هذا المكان، لذلك من أصعب الأمور أن تعيش فيه، ومن أصعبها أن تفارقه أيضا.. ولعل هذه من تناقضاتها الجميلة والعميقة في آن واحد.

7.

.أكرهك أيتها الصحراء ولا أستطيع أن أفارقك...

.أنت لا تعرف مصلحتك إذًا..

.بمعنى!!!!!!

.هنا العدم..هنا الآخرة يا صديقي..

.من يحدثني؟؟؟؟

.أنا الصحراء..أنا أنت أيضا......طيب... هذا جنون يا صديقي القارئ..