غزة تغرق في بحر الأزمات وتعيش صرعى الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني والمؤسسات الاستثمارية الفلسطينية، ما حوّل حياة مواطنيها إلى جحيم في المعاناة والمأساة والبؤس.
وجوه شاحبة وباهتة، هكذا هو حال مواطني غزة في شوارعها وحاراتها ومخيماتها وقراها ومدنها، الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني والسياسات الحكومية المتوحشة بعضاً منها ملتصقاً ببروتوكول باريس الاقتصادي الذي يُعد من التزامات اتفاق أوسلو المشؤوم، وبعض منها من الضرائب التصاعدية والمزدوجة منها، والحروب الإسرائيلية الثلاثة الدموية والمدمرة، كل ذلك أدى إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني في غزة الذي يعتمد على التجارة فقط، بل كان سبباً في ارتفاع نسب الفقر والبطالة بمعدلات فلكية.
في هذا الزمن الضائع يجول الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كافة أنحاء العالم وينسى غزة بحثا عن دعم حراكه السياسي لعل حاشيته ومقربيه يجهلون أو يتجاهلون أن الرئيس الراحل أبو عمار، أول من وطأت قدمه أرض غزة، لمكانتها في الخاصرة الوطنية وفي النضال الفلسطيني.
في غزة كل شيء تغير نحو الأسوأ، فلم تعد الحياة تُطاق والموت لم يعد طوق نجاة، بل تحولت إلى مكان يفتقر للشروط الإنسانية للعيش الكريم، تمنى أعداؤها أن يبتلعها البحر، فهي لصيقة بأهلها وتتحدى أعداءها في تعكير مزاجه وتقف سداً منيعاً في وجه الغزاة، فهي كابوسهم، لأن أطفالها بلا طفولة وشيوخها بلا شيخوخة ونساءها بلا رغبات كما وصفها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب. هذا هو قدر سكانها وهذا هو حالها فهي تلتف حول خاصرتها قنابل الموت وتشتم بها رائحة البارود، وهي الأكثر جدارة في الحب والسلام والإبداع رغم الحصار والجوع والفقر.
المعدلات والأرقام الفلكية في الفقر والجوع والبطالة تجعل غزة مدينة البؤس والبؤساء وتوصلها إلى واقع مخيف ومرعب، يقطن على أرضها قرابة مليوني مواطن، حوالي 70 بالمائة بما يقارب المليون وثلاثمائة ألف لاجئ يتلقى نحو مليون منهم مساعدات من وكالة الغوث "الأونروا"، تتجاوز فيها نسبة الفقر الـ 65 في المائة منهم 81 بالمائة يعتمدون على المساعدات الاغاثية والإنسانية من مختلف المؤسسات الدولية، 70 ألف فرد يتلقى مساعدات من برنامج الغذاء العالمي، و73 ألف عائلة مسجلة بالشؤون الاجتماعية، ونسبة البطالة وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني تصل إلى 46.6 بالمائة، فيما يصطف مئات آلاف الخريجين والعمال في طوابير البحث عن مستقبل زاهر لهم ولأسرهم، فيما يبحث المئات بل والآلاف من شبابها وعوائلها عن هجرة للخارج تؤمن لهم حياة كريمة ولأسرهم.
وفي غزة ينعدم الأمن الغذائي (قرابة 200 ألف فرد يعانون من سوء التغذية وفق إحصائيات منظمة اليونيسيف) ونظيره الوظيفي على وقع خصومات موظفي السلطة الفلسطينية (30-50) بالمائة وقانون التقاعد المبكر للعسكريين والإجراءات الغير مسبوقة ومنها الضرائب الخارجية والداخلية، والمصير المجهول لقرابة 40 ألف موظفاً عينوا بعد عام 2007، إضافة إلى الغلاء الفاحش في المعيشة، والأزمات المصطنعة والخلل القائم في القوة الشرائية، كل ذلك وما سبق أطاح برجال أعمال وتجار كبار وصلت قيمة شيكاتهم المرجعة لأكثر من 650 مليون دولار لعدم توفر أرصدة في حسابات المقترضين والموظفين، ليجدوا أنفسهم على عتبة الإفلاس الاقتصادي ويُزج بهم بالسجون.
المهللون والمطبلون للكارثة الإنسانية العاصفة في غزة، خصوصاً أنها ليست وليدة اللحظة، يدفعون بالقطاع للقبول بصفقة القرن - التي وعد بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته الجديدة التي بدأت معالمها تتدحرج في خطواتها لتُفرض على الفلسطينيين وكامل المنطقة العربية- ربما تكون مقيدة بشروط أكبر، غاياتها سياسية لإخراج غزة من وحلها مؤقتاً وليس بالمجّان، نحو طريق ربما لا يُسر صديقاً ويُفرح الأعداء.
غزة لا تريد أن تكون تجارة خاسرة للسماسرة بل تكون کنزاً معنوياً وأخلاقياً لا يُقدر لكل العرب. قد ينتصر الأعداء على غزة ويكسرون عظامها. وقد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها. وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم، لكنها لن تسكت وستواصل الانفجار في وجه الاحتلال وأدوات الانقسام والسياسات الحكومية الظالمة والمؤسسات الاستثمارية المتوحشة، لأن أسلوبها هو إعلان جدارتها بالحياة.
أمام تلك الكارثة والبؤس، هل ستُدرج مآسي غزة على جدول اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني القادم، أم يُراد لها أن تكون بقرةً حلوباً فقط، أم ستبقى مقررات ومخرجات «المركزي» فيما يخص غزة حبراً على ورق.
كل ما سبق، ألا يتطلب من المجلس المركزي الفلسطيني، إجراء مراجعة شاملة للحالة والقضية الفلسطينية منذ التوقيع على اتفاق أوسلو وحتى الآن، وبما ألمت بها من سنوات الحصار الإسرائيلي الجائر والانقسام الفلسطيني العبثي وسياسة التفرد والانفراد بالقرار الوطني بعيداً عن الوحدة الوطنية الائتلافية وأسس التشاركية. فلا جدوى من إعلان دولة فلسطين تحت الاحتلال ما لم يتم التحرر من اتفاق أوسلو وقيوده الأمنية والسياسية والاقتصادية المجحفة، وإعادة بناء الوحدة الوطنية وفق أسس تشاركية، والعودة إلى صيغة حركة التحرر الوطني لشعب تحت الاحتلال. ولا معنى سياسي لحل السلطة الفلسطينية بل المطلوب تغيير وظيفتها من سلطة حكم إداري ذاتي «سلطة انتقالية» إلى سلطة تشكل أساساً لدولة تناضل من أجل فرض سيادتها وسيادة شعبها على أرضها وتدعم صمودهم.