لأحمد أبو سليم (3-1)
كتبها: نضال القاسم
ما يشبه المقدمة...
من بين أسماء كتاب الرواية الشباب في الأردن، يبرز اسم الشاعر أحمد أبو سليم، باعتباره أحد الأدباء الذين تمكنوا من إيجاد مكانة لأسمائهم على خريطة الإبداع العربي، بفعل اجتهادهم ومثابرتهم في الإنتاج الأدبي، الذي وصل حصاده حتى الآن أربع مجموعات شعرية هي «دم غريب، شعر» و«البوم على بقايا سدوم، شعر، 2008م»، و«مذكرات فارس في زمن السقوط، شعر، 2006م»، وأما آخر مجموعاته الشعرية فهي «آنست داراً، شعر، 2010م» قبل أن تصدر له أخيراً روايته الأولى «الحاسة صفر». فهو كاتب متعدد التجارب، ولديه حس المغامرة الإبداعية، وإقبال على الكتابة في كافة تجلياتها الإبداعية، مما يؤشر إلى انغماس جدّي في «لعبة» الكتابة بأدواتها السردية والشعرية على السواء.
“الحاسة صفر” إذاً هي الرواية الأولى للشاعر والروائي أحمد أبو سليم بعد أعماله الشعرية والتي صدرت خلال السنوات القليلة الماضية، والطابع الفني العام في كتابته قائم بالدرجة الأولى على اقتصاد لغوي ذكي، ودلالات مكثفة مفتوحة على تأويلاتها. فمنذ الصفحة الأولى يشي الإهداء بعوالم النص التي ستواجه القارئ، وهو يقول (إلى كلِّ من سيجازف بقراءة هذا النصِّ المجنون جداً، الواقعي جداً، وكأنه لعبة كلمات متقاطعة).
رؤية مضمونية عامة
في أكثر من فصل من فصولها تأخذنا الرواية من الواقع المعتم الثقيل على النفس إلى الفانتازيا، والسريالية التي سببت اختلاط الحواس لدى «سعيد» الذي فقد الحواس الخمس، وبات يعيش في حالة «الحاسة صفر» التي يفسرها بأنها: الحاسة التي لازمتني منذ ولادتي. الحاسة صفر هي حاسة الخيبات والوجع الذي لا يتوقف أبداً، هي الحاسة التي لا تصل إلى حقيقة قط، حاسة القلق والشك والألم. «الرواية، ص151»
ومع مسار آخر، موازٍ لويلات الحروب فقد تم رصد المشهد الفلسطيني وصراعاته الفردية والشللية، فانعكست صورة سياسية ثقافية تكاد تكون مكتملة وبالغة الصدق، لمرحلة كتب عنها كثيرون، لكن حسنة «الحاسة صفر» أنها لم تتردد في قول ما لا يُقال، سيما في توثيق الكاتب لمجريات حساسة وخطيرة مع عرض تفاصيلها بدقة مدهشة وتلقائية عالية ومفارقات مذهلة، لتتولد لدى القارئ أجواء نفسية يمكنه استعادتها كما لو أنها تحدث الآن.
كما أطلعتنا الرواية على أن المقاومة ليست معصومة، فهناك تجاوزات وخيانات واختراقات وفساد وقتال داخلي، أي أنها تعاني مما تعاني منه الدول والأنظمة، بهذا النقد الواعي تتحدث الرواية عن ألوان من الانحراف واضحة المعالم في مسار الثورة الفلسطينية بكافة أطيافها وفصائلها وتنظيماتها، ويمتد النقد إلى كل شيء، إلى الدكاكين الثورية وأصحابها الذين أبعدتهم تجاربهم الفاشلة خارج دوائر الاهتمام فأصبحوا مجرد كائنات فقدت جاذبيتها تقضي أيامها باجترار ما مضى، إلى المؤسسات الأمنية المهترئة، ويمتد النقد كذلك إلى الاقتتال الداخلي في الشمال اللبناني، وإلى الرموز الذين حملت تجاربهم خيبات فشل كثيرة زادت يوماً بعد يوم.
لقد أراد أحمد أبو سليم أن يكون صادقاً بصورة شبه مطلقة، لذا رسم المواقف والشخصيات كما هي ولكن بحساسية صافية وموجعة وطريفة أحياناً، أو كما حدثت تماماً، حتى تلك التي ربما تمس بشخصه وإبداعه وتاريخه، وهو يعي الضرر الذي قد تلحقه به هذه التفاصيل الصادقة، وكان يمكنه تجميلها، أو إهمالها أو التغاضي عنها في أضعف الإيمان، لكنه اراد أن يقدم «الحاسة صفر» بمجرياتها المشرّفة والمؤسفة في آن.
البناء الروائي
على امتداد خمسةٍ وعشرين فصلاً، يتناوب السرد فيها راوٍ بضمير الغائب، يروي لنا سعيد الدوري حكايته مع المقاومة، ومع الكتل البشرية الوافدة إلى بيروت من كل الأصقاع، متابعاً بتلقائية محببة وتصوير جمالي لغوي مدهش ما يعيشه الثوار والمقاتلون.
على هذا النحو، يستوعب ضمير الغائب المشاهد المرئية، ويسرد حكايات أشخاص عاصروا الثورة منذ عقود، على نحو ما يحكي «حليم» الذي يستحضر تلك البدايات التي كان هو ورفاقه هم حجر الأساس فيها. وضمن هذا السرد بضمير الغائب، يحكي «أبو طلال» مغامراته، ويحكي «سعيد الدوري» عن شقيقه الغائب مجهول المصير «عيسى» والذي اختفى منذ عام 1970، ويروي «حليم» لصديقه «سعيد» قصة «لفائف قمران» والتي ظلت إسرائيل تلاحقها أمداً طويلاً، هذه اللفائف التي تريدها «إسرائيل» لتلحقها بما استحوذت عليه من قبل، لتخفيها عن الباحثين والمؤرخين لأنها ربما تكشف عن عدم صدقية وعد التوراة، وتلفيق ادعاءات الحق التاريخي لليهود في فلسطين، وهي «لفائف» تاريخية في غاية الأهمية تم العثور عليها في منطقة البحر الميّت ومن ثم تم تهريبها حتى وصلت إلى كنيسة سريانية في منطقة زحلة بلبنان، وعلى هذا النحو أيضاً تخلّقت شخصيات الرواية الأخرى وتحددّت مساراتها كشخصية «سعيد الدوري» الذي انخرط في الثورة وشارك في معارك الجبل، وكذلك الحال مع شخصيةُ «أبي الفوز وأخته زينب» التي ادعّى أبو الفوز أنها أرملة عيسى الشقيق الغائب لسعيد الدوري، وأما بقية الشخصيات فقد تم تخليقها بموجب التسلسل المنطقي للسياق الروائي، حيث ظهرت شخصية «المحقق كمال» على سبيل المثال عقب محاولة اغتيال «شمعون بيريز» في عمان.
وقد اعتمد الكاتب في بناء روايته على مجموعة من الخطوط الرئيسة التي سيّرت وقائع الرواية، وتخلّقت من مقتضياتها الشخوص، والتي يمكن أن تتلخص بمجموعة من المحاور الأساسية، أهمها، رحلة البحث عن الشقيق المفقود عيسى، و«لفائف قمران» التي أخبر عنها حليم صديقه سعيد، وعملية الزوارق البحرية التي استهدفت اغتيال بعض الشخصيات الاسرائيلية، والتحقيق المستمر الذي قام به المحقق «كمال» مع «سعيد الدوري» بصفته متهماً بمحاولة اغتيال “شمعون بيريز”.
أما في المحور الأول فيمكن الإشارة إلى أن «سعيد» وأثناء بحثه عن شقيقه المفقود «عيسى» من خلال طباعة صورته على بوستر وزع في شوارع المخيم فتعرف على الصورة شخص يُدعى «مروان الصفدي» وسارع بإبلاغ «سعيد» أن شقيقه قُتلَ في غارة إسرائيلية جوية على المقاتلين المتقدمين باتجاه سهل الحولة في أثناء حرب تشرين (أكتوبر) 1973، مؤكدًا له أن شقيقه «عيسى» قبل استشهاده كان قد تزوج من فتاة في المخيم اسمها «زينب»، وأنها ما تزال على قيد الحياة.
وبعد أيام قليلة حدث أن زار «معسكر الخمسين» زائرة برفقتها طفل صغير، ادعّت أنها زوجة الشهيد «عيسى» وأن هذا الطفل الصغير هو ابن «عيسى»، وهنا حاول مروان الشاب الذي تعرف على شقيقه، تقصّي الحقائق فتبين له من أقارب «زينب»، أنّ «زينب» الزائرة ليست زوجة عيسى وإنما هي شقيقة «أبي الفوز» الأرملة التي توفي عنها زوجها دون أن يكون له راتب تقاعدي تعتاش به أسرته بعد موته، وأن شقيقها «أبو الفوز» حاول بهذه المكيدة أن يستصدر لها تعويضات شهيد تقاعدية قد تصل إلى 30 ألف دولار ولم يجد طريقة أفضل من هذه الطريقة للحصول على هذه التعويضات، وقد أثبت «الصفدي» لسعيد ان الفتاة التي تزوجها شقيقه «عيسى» هي ابنة الفران، التي ماتت بعد فترة وجيزة من استشهاد زوجها، ولم تنجب منه.. هنا لابد من الإشارة إلى أن الروائي أحمد أبو سليم قد نجح تماماً في تعرية فساد الثورة وكشف عيوبها من الداخل من خلال الإشارة إلى الحادثة. (يتبع)