"في فلسطين وسوريا والعراق ومصر...الخ هناك هموم لا بد من إنجازها: التحرير، والبناء الاقتصادي والعلمي، وتأسيس الهوية القومية والمواطنة في الأمة/الدولة. بعد ذلك يمكن التفكير في "الديمقراطية" الليبرالية إن كان لا بد منها."
يبلغ عدد الأحزاب العراقية التي ستشارك في الانتخابات القريبة ما يزيد على مئتين وخمسين حزباً. وهو عدد هائل بالفعل لا شبه له تقريباً في الديمقراطيات المعروفة. ترى ماذا يتبقى من فرصة أمام المواطن لكي يتمكن من اختيار القائمة الحزبية التي تمثل مصالحه ووجهات نظره في السياسة أو الاقتصاد؟ من أين يأتي الفرد/المواطن بالوقت والدراية لكي يتمكن من التمييز بين هذا العدد الهائل من المرشحين والقوائم؟ يحضرني في هذا السياق أنني فشلت على امتداد السنين من مواطنتي العربية/الفلسطينية من التمييز الدقيق بين الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية علماً أن الفصائل الفلسطينية لم يبلغ عددها في أي وقت عشرين فصيلاً. ولزيادة البيان أود أن "أتباهى" بأنني كنت طوال الوقت مهتماً بالشأن السياسي/الوطني إضافة إلى اهتمامي بالسياسة العربية والعالمية بحكم أنني درست الفلسفة السياسية. كيف يمكن للمواطن العراقي البسيط الأمي أو شبه الأمي أن "يختار" وينتخب؟
كنت أثناء إقامتي في الولايات المتحدة أشفق على المواطن الأمريكي الحائر بين الحزبين الذين يحكمان أمريكا منذ أزيد من قرن، أعني الديمقراطي والجمهوري. ولا بد أن الأمريكي سيصاب بالصدمة إن علم بأن المواطن العراقي يجب أن يحفظ أسماء مئتي قائمة، ناهيك عن التعرف "الجدي" إليها والاختيار بينها.
في فرنسا وبريطانيا يقل عدد الأحزب عن عشرين، وفي الولايات المتحدة لم "تفرخ" الديمقراطية الأمريكية على امتداد أكثر من مئتين عام أكثر من عشرة احزاب. بالطبع وجود عشرة أحزاب هو امر مربك على الأرجح للناخبين، لكن عندما يدور الكلام عن عشرات الأحزب أو مئات الأحزاب مثلما هو الحال في العراق أو تونس فإننا بالطبع نعدم أية فرصة لأي نقاش مثمر في الحيز العام بخصوص برامج هذه الأحزب أو رؤيتها السياسية أو الاقتصادية.
هناك أمر مهم آخر لا بد من ملاحظته: "الديمقراطية" في ظل غياب المواطنة تقود إلى توليد تنافس في المستوى ما قبل الحداثي أو ما قبل الأمة والدولة. لذلك في العراق تنحل مئات الأحزاب في نهاية التحليل إلى أحزب سنية وأحزاب شيعية وأحزاب كردية. ربما لا يوجد بهذا المعنى أي حزب عراقي.
الديمقراطية بالمعنى الذي يتوهمه المواطن العادي في بلادنا ويشاركه هذا الوهم جزء واسع من النخب، لا وجود لها إلا في العقل المجرد. ذلك أنهم يظنون أن الديمقراطية تعني اختيار المواطنين الحر للاحزاب التي تمثل وجهة نظرهم. وهم كذلك يتوهمون أن ذلك الاختيار يجعل الناخب في موقع من يتحكم في العملية السياسية وكيفية إدارة البلاد. بالطبع يعرف أي صحفي مبتدئ أو طالب صغير في العلوم السياسية أن هذا لا وجود له أبداً، وأن الديمقراطية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة....الخ إنما تعني تداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع بحيث يصل إلى الحكم واحد من الأحزب المتشابهة التي تحافظ جوهرياً على النظام والتوازن الاجتماعي/الطبقي القائم.
لكن هذه الديمقراطية بمزاياها المختلفة بما فيها ضمان الحريات المختلفة وإمكانية محاسبة الحكومة...الخ وكذلك بعيوبها المختلفة وعلى رأسها أنها لا تسمح فعلياً بوصول حزب يمكن أن يقوض أركان النظام جذرياً، هذه الديمقراطية بخيرها وشرها لا فرصة لها في بلادنا المنقسمة الى عشائر وطوائف وشيع وقبائل وإثنيات وديانات. المواطنة عندنا لم تتحقق حتى اللحظة، والأمة لم تنجز بعد، والدولة الحديثة المستقرة ما تزال حلماً.
هل نموذج العراق "الديمقراطي" أو نموذج ليبيا هو ما يحلم به إخوتي المثقفون الليبراليون لسوريا والجزائر ....الخ
بناء الوطن واستقلاله السياسي والاقتصادي ودحر الاستعمار وأطماعه هو المهمة التاريخية الراهنة، أما أوهام الديمقراطية فهي طريقة لتمزيق أمتنا وشعوبها اكثر مما هي ممزقة. نعلم أن هذا مؤلم للمثقف الذي يجلس في المقهى يحتسي المشروبات ويدخن السجاير والحشيش ويتحدث عن فوكو وهومي بابا. لكن هذه هي المعضلة بالضبط: الناس تفكر بعقل فوكو وتعيش في اليمن أو البصرة حيث القبيلة تسود المشهد، والشوارع بين المدن تفتقر إلى التعبيد ناهيك عن الإنارة.
قبل عشرين عاماً كنت أعمل مدرساً في اليمن، سألت ذات مرة سائق تكسي يعلق شعار الحزب الاشتراكي اليمني، "الرفيق اشتراكي؟" فرد على الفور: "طبعاً أنا اشتراكي، القبيلة كلها اشتراكية".
القبيلة كلها اشتراكية أو ديمقراطية او ما شئتم. لكن البلد ليس فيها اشتراكية ولا ديمقراطية ولا "بلد".