الحدث- عصمت منصور
في اللحظة التي توقفت فيها السيارة من نوع سوبارو قرب حاجز جيش الاحتلال، هاجمها الجنود وأسلحتهم مشرعة، جروا شابا خارجها، قيّدوه بالأصفاد، ألقوا به على أرضية الجيب العسكري الذي كان يقف في وضع الاستعداد قريبا من الحاجز.
انطلق الجيب العسكري الإسرائيلي نحو معسكر عوفر، وهناك وبعد أن خضع لفحص طبي روتيني اقتيد الشاب الخائف إلى غرفة الاعتقال.
الشاب كان يبلغ من العمر 18 عاما فقط ولا زال في المرحلة الثانوية من تعليمه وبفضل أصدقائه ودعاية حركة حماس انخرط في صفوف المقاومة ورغب بقتل الإسرائيليين، لذا اجتهد للتزود بالسلاح (اقتنى قطعتين من نوع كارلو جوستاف ومسدسا) حصل عليه من مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة.
عندما كان في الجيب العسكري تساءل بينه وبين نفسه: كيف وصل إليه الإسرائيليون!؟
هل تعقبوا أثري بسبب اسم والدي؟
مصعب حسن يوسف هو ابن القيادي البارز في حماس في الضفة، حسن يوسف ولهذا أَطلق عليه ضباط الشاباك منذ اليوم الأول لقب "الأمير الأخضر" نسبة للون علم حماس الأخضر.
بعد أن تمت تغطية رأسه بكيس تحقيق، نُقِل مصعب من مركز التحقيق إلى غرفة انفرادية في السجن وتم تعذيبه بشدة، رُفع صوت الموسيقى لمنعه من النوم، تم تقييده بكرسي لساعات طويلة وتعمد السجانون ضربه والتنكيل به كلما مروا من أمامه.
بعد هذه الجولة من التعذيب، طُلب من مصعب أن يقابل ضابط الشاباك الذي كان ينتظره مع مفاجأة!.
تعامل الضباط معه بمنتهى الرقة ولم يوجهوا له حتى ولو صفعة واحدة وتعمدوا أن يتحدثوا معه عن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين عندها قال لهم مصعب:
أنا رجل سلام
نحن أيضا تنظيم مسالم، رد الضابط الذي لُقّب باسم "جابر" وأكمل:
ربما نستطيع معا أن نوقف العمليات والقتل وأن نصل للسلام.
خرج مصعب من غرفة التحقيق وقُدّم له طبق شهي من الطعام.
مصعب لم يكن يعلم أنه يخضع لمراقبة نفسية من قبل خبراء الشاباك والمختصين النفسيين ومختصين في شأن العرب، وأن حالته كانت موضع نقاش بين الضباط.
مصعب هو الابن البكر للقيادي حسن يوسف ولا زال شابا في مقتبل العمر وهو مرشح لأن يكون عميلا بسبب عدة صفات تم تمييزها من قبل الخبراء.
وجد الشاباك أن مصعب يعيش عقدة منذ طفولته، كما أنه تعرض لتحرش جنسي من قبل قريب من عائلته، وهو سر لم يبح به لأحد بالإضافة إلى نظرته الحائرة تجاه والده الذي لم يكن يراه إلا نادرا بسبب اعتقالاته المتكررة وانشغاله في المقاومة، كذلك رأوا فيه شخصا فضوليا ويحب الظهور.
الفكرة بدت مجنونه في البداية ولم يتخيل أحد أن يوافق ابن قيادي في حماس بأن يتحول إلى عميل لدى جهاز الشاباك الإسرائيلي، وأن يخون والده وحركته، ومع ذلك قرر الضباط أن يجسوا نبضه، وأن يعرضوا الفكرة عليه.
طُلِب مصعب لغرفة التحقيق، وعُرض عليه بشكل مباشر أن يتحول إلى عميل لإسرائيل.
في البداية، رفض مصعب العرض وقال لاحقا إنه اعتقد أنهم مجانين كي يقدموا عرضا من هذا النوع.
"قلت لهم هل تعتقدون أنني سأعمل معكم؟ هذا لن يحدث على الإطلاق". قال مصعب
بعد ذلك، فكر مصعب بالعرض مرة بعد أخرى وقرر أن يخدع الشاباك.
في تلك الفترة قُتِل ضابطان من الشاباك من قبل العملاء الذين شغلوهم، لذا فإنه اعتقد أنه إذا ما وافق فبإمكانه أن ينجح في قتل ضابط من الشاباك ولذا وفي اللقاء التالي ألمح أنه يمكن أن يوافق.
نُقِل مصعب إلى سجن مجدو وحُكم عليه بالسجن 16 شهرا أمضاها في مجدو وهو السجن الذي يتكون من خيم مقسمة إلى عدة اقسام، وهناك اكتشف مصعب وجود خيمة خاصة بحماس يتم اقتياد أسرى يشتبه بهم بالتعاون مع إسرائيل إليها، ويتم التحقيق معهم ولا يسمع منها سوى صراخهم.
التحقيق مع العملاء كان عنيفا جدا، واستخدمتْ فيه أساليب رهيبة ومخيفة من قبل المحققين الذين ينتمون لجهاز أمن حماس داخل السجن، وهناك من قُتل ومات منهم تحت التعذيب أو بسبب خطورة الجرائم التي ارتكبوها كما قيل لمصعب.
معرفة قيادة حماس في السجن بوالد مصعب وبسبب خطّه الجميل أيضا، طُلب منه التواجد في الخيمة الخاصة بالتحقيق، وتسجيل اعترافات العملاء والمشتبه بهم.
ذُعر مصعب من التحقيق والقسوة التي تُستخدم بحقّ المشتبه بهم والتي قال إنها تفوق ما يفعله الإسرائيليون.
كان يستمع إلى اعترافات الذين يتم التحقيق معهم ويعتقد أنها جاءت بسبب استعدادهم لقول أي شيء للخلاص من التعذيب، كأن يعترفوا أنهم اغتصبوا نساء القرية ومارسوا الجنس مع أمهاتهم.
تساءل مصعب، هل هذه هي حماس التي تحارب وتقاوم من أجل تحرير فلسطين؟
تراجع مصعب عن فكرة قتل ضابط الشاباك، وزادت قناعته بأن الإسرائيليين يريدون السلام وأن السلام لن يتحقق إلا بوقف العمليات.
في سجن مجدو، قابل مصعب خاله واعترف له أنه يخطط لقتل ضابط شاباك وأنه سيمثّل بأنه يعمل معهم، وهنا هجم عليه خاله وضربه واتهمه بالخيانة وهو ما جعل مصعب يعيش نوع من الخشية بإنه سيُساق إلى خيمة التحقيق في أي لحظة معتقدا أن كل يوم هو يومه الأخير وإنهم سيعدمونه.
بعد تحرره من الاعتقال بشهرين اتصل به جابر، وهو ضابط الشاباك الذي حقق معه وعرض عليه العمل معه طالبا منه أن يقابله.
خاف مصعب وحاول أن يعرف سبب اللقاء، وإن كانت إسرائيل تريد أن تغتال والده.
وافق مصعب على اللقاء، وهو ما يعني أنه تجاوز حاجز الخوف ووافق ضمنا على العمل مع إسرائيل.
وجه الضابطُ مصعب وقال له أن يخرج من البيت وأن يسير في خط مستقيم على شارع معين وهناك جاءت سيارة أخذته، ليجد داخلها جابر ومجموعة من الجنود الذين فتشوه بدقة لأنهم يخشون من مصعب أيضا، لا سيما بعد مقتل اثنين من زملائهم، وشكوا بأن يكون على جسده عبوة ناسفة، لذا تصرفوا معه كأنه ذاهب إلى جولة تحقيق وألبسوه الكيس على رأسه إلى أن وصلوا مقرا للشاباك في أحد المستوطنات.
"اللقاء الأول كان حاسما مثل قفزة في الهواء"، قال ضابط سابق في الشاباك، لقد قَبِلَ الاتصال ووافق على الحضور بشكل سري ومناقشة الفكرة، وأجاب بأمانة على أسئلة نعرف إجابتها مثل ما هو انتماء والدك السياسي دون أن يخشى من إفشاء الأسرار.
بعدها عرضنا عليه أن نشرب القهوة معا، ووافق على ذلك أيضا، وهكذا، خطوة بعد أخرى، وبعد أن تبين أن اللقاء الأول ناجح، أُزيلت كل الحواجز.
أثناء اللقاء الأول مع جابر، تحدث مصعب بقلب مفتوح واعترف أنه خطط لقتل الضابط الذي سيشغله، ورغم أنه تلقى 800 دولارا، إلا أن النقود لم تكن تشغله.
في بداية تعامله كان يتابعه عدة أشخاص، مثل تامر وحكيم والكابتن زياد الذي رأى فيه شابا عبقريا، وتم التعامل معه باحترام كبير.
مصعب كتب: كل مرة كنت أقابل فيها الضباط، كانوا يسألونني إن كنت بحاجة لشيء، وكانوا يقدمون لي المشروبات والطعام وفق الشريعة الإسلامية، وكانوا حريصين على عدم المس بمشاعري حتى أنهم لبسوا الطويل من الثياب، ولم يضعوا أرجلهم على الطاولة احتقارا كما فعلوا مع الآخرين، وهذا جعلني أتقرّب منهم وأرغب بمعرفتهم أكثر وأكثر، وفي كل لقاء كان حاجز إضافي يزول بيني وبينهم.
بعد فترة تم تخصيص الكابتن لؤي لمتابعة مصعب واسمه الحقيقي جونيين بن يسحاك.
بن يسحاك بدء العمل في الشاباك في شهر 5-1998 وجابر كان في نهاية فترة الخدمة.
بن يسحاك تسلم الملف وأصيب بالذعر لأول وهلة لأنه وجد بين يديه ملف شخص من تنظيم خطير مثل حماس وتخيل أنه وحش، ولكنه اكتشف بعد أن اجتمع معه، أنه أمام شاب صغير مع تسريحة شعر مرتبة، ونظارات مثل هاري بوتير وتساءل باستغراب: هل هذا قاتل؟
الحديث بين بن يسحاك ومصعب استمر لساعات وكانا يتطرقان فيه لقضايا عامة مثل الأمن والسلام والعدل، وتحولت اللقاءات بينهما إلى دردشةِ تقارُب حولتهما إلى أصدقاء خاصة أن بن يسحاك اكتشف أن مصعب يعيش في فراغ كبير بسبب انشغال والده وعدم حضوره في حياته وكان دائم البحث عن محيط دافئ وبيئة تحميه، بالإضافة إلى الفضول الكبير الذي ميزه ونظرته الأمنية الثاقبة.
في أحد اللقاءات التي جمعتهما قرب رام الله، سأله بن يسحاك عن اجتماع جمع بين شخصيتين من حماس في المدينة وإنه يريد أن يعرف عن ماذا تحدثا.
طلب مصعب مزيدا من الوقت كي يفحص الأمر، وسيرد عليه.
بعد عدة أيام، عاد مصعب ومعه الجواب حيث قدم تقريرا استخباراتيا مفصلا مضيفا أن الشخصين ينتميان لنفس الجهاز في حركة حماس وأنهما يجتمعان بشكل دوري لتبادل الرأي والرسائل السرية.
أُعجِبَ الشاباك في طريقة عمل مصعب، التي يؤديها بشكل مبادر واستخباراتي ويجمع أطراف القصص معا لبناء قصه واحدة لم تكن تخطر في بال أحد من قبل.
وقعت عملية تفجيرية في فرع التأمين الوطني في القدس المحتلة، قُتِل فيه إسرائيليون وتم توجيه إصبع الاتهام بشكل مباشر لحركة حماس من قبل الشاباك.
أحد الشهود قال إن سيارة مرت مسرعة من المكان وإن نوعها تويوتا خضراء.
البحث تركز على السيارة ومحاولة معرفة مصدرها ومن يمتلكها.
مصعب طلب على الفور جلسة مع الضباط، وقال لهم بحسم:
إنها ليست حماس بل الجناح العسكري لحركة فتح أو ما يُطلق عليه في إسرائيل اسم " التنظيم"
أضاف مصعب، أن المجموعة متواجدة في رام الله، وتحديدا جنوب شرق رام الله، وأن السيارة هناك وهي من نوع فورد وليست تويوتا.
وبالفعل تبين للشاباك أن السيارة كانت من نوع فورد وليس كما وصفها الشاهد، وهذا قاد إلى الخلية التي تواجدت في المكان الذي وصفه لهم مصعب.
مصعب سلم للشاباك خمسة استشهاديين قدموا من الأردن لتنفيذ عمليات في إسرائيل .....
قصة تجنيد الشاباك الإسرائيلي لابن حماس (الجزء الثاني)