بعد توسُّع إسرائيل في احتلالها عام 67 وصف المؤرِّخ الإسرائيلي " عمانويل سيفان " إسرائيل بالحالة الكولونياليَّة الجديدة – بمعنى، الحالة الاسعماريَّة بالمعنى الكلاسيكي لكن الجديد – وكتب الشَّاعر سميح القاسم يقول: سيَّداتي وسادتي: " نحن الآن على مفترق طرق ".
حاولت إسرائيل في البداية وعلى مدى عقودٍ من احتلالها إعطاءَ الانطباع أنَّ أوضاع الاحتلال الناشئة عن حرب عام 67 مُؤَقَّتة، وهو ما أعطى هذا الاحتلال مزايا عديدة – كما يقول المؤرِّخان الإسرائيليَّان باروخ كمرلنغ ويوئل شموئيل مِغدال – وهو الأمر الذي سيكون له تأثير على وعي الفلسطينيين على ذاتهم بعد تلك المرحلة وعلى الاحتلال وطبيعة تعاطيهم مع وقائعه ونتائجه؛ يقول كلاهما في سياقٍ عام: لعلَّ تصوُّر كون الاحتلال مؤقَّتاً؛ هو ما أدَّى إلى أنْ تبدو المقاومة الشَّعبيَّة العارمة له أمراً زائداً على الحاجة، وقد كان توظيف استلهام بعض التجارب السابقة خاطئاً ومُضلِّلاً تماماً؛ ففي حرب سيناء عام 1956 أُجْبِرَتْ إسرائيل على الانسحاب من المنطقة التي احتلتها في قطاع غزَّة ومعظم شبه جزيرة سيناء، دون مقاومة تُذْكَر؛ فقد كان ذلك بفعلِ ضغوطٍ دوليَّة قادتها الولايات المتَّحدة والاتِّحاد السوفييتي كقوىً دوليَّة كبرى بازغة - وريثة لقوى الاستعمار الكولونيالي التَّقليدي القديم - اضَّطَلَعَتْ بتوجيه دفَّة السِّياسات الدَّوليَّة وذلك بعد انكفاءِ كلٍّ من بريطانيا وفرنسا، اللَّتانِ تحالفتا في حرب السويس ضد مصر عام 56 وإلى جانبهما كانت إسرائيل، وقد جرى أمر معالجة نتائج وآثار حرب السِّويس ومنها احتلال إسرائيل لغزَّة وشبه جزيرة سيناء ضمن دائرة الاحتجاج الأمريكي السوفييتي على تلك الحرب أساساً، وضمن سياسات تفاهم استراتيجي بين تلك الدُّول الكبرى.
لنعد إلى بعض الجذور مجدداً، فقد وقعت نتائج حرب عام 1967 كالصَّاعقة على الجميع، وفجأة تغير طابع الصراع والمواجهة؛ فبعد حرب عام 1948 وطيلة ما يقرب من عشرين عاماً، حتى حزيران عام 67، كان الصراع يبدو وإلى حدٍّ كبير كأنَّه يدور بين دول اتِّفاقات الهدنة الموقَّعة عام 49، أيْ بين كلٍّ من إسرائيل وبين الدُّول العربيَة الموقِّعة على تلك الاتفاقات تباعاً وهي، الأردن ومصر وسوريا ولبنان؛ وقد كان يجري النظر إلى التوترات المتواصلة على الحدود بعد توقيع اتفاقات الهدنة بما في ذلك العمليات الفدائية وكذلك حرب السويس عام 56 على أنَّها حوادث وتوتُّرات بين دول ذات سيادة، وكانَ يُنظَرُ إلى إسرائيل سواءً بنظر مجتمعها الدَّاخلي أو بنظر جمهور واسع وخصوصاً في العالم الغربي – وذلك الأمر الذي كان أكثر أهميَّة بالنسبة لها - على أنَّها دولة صغيرة مُحاصرة تتعرَّض للتهديد بالإفناء والإزالة من الوجود من جانب المحيط العربي المعادي لها، ومن جانب دوله الأكبر منها بكثير والتي لم تُسلِّم حتَّى ذلك الحين بحقِّ إسرائيل في الوجود، وقد كان ذلك محور الدِّعاية الإسرائيليَّة المُلِحَّة على أَسْماعِ العالم الخارجي صباح مساء.
عشية حزيران 67 تغير الوضع كثيراً وبصورة دراماتيكيَّة، فقد أعادت نتائج الحرب توحيد فلسطين الانتدابيَّة تحت سيطرة دولة إقليميَّة واحدة هي إسرائيل، بعد أنْ كانت تلك السيطرة موزَّعة بين كلٍّ من إسرائيل والأردن ومصر، وقد أُضيف إلى هذه المساحة الخاضعة للسيطرة الإسرائيليَّة أيضاً كلَّاً من سيناء وهضبة الجولان السوريَّة.. أعادت نتائج الحرب التواصل بين أجزاءٍ كبيرة وأساسيَّة من المجتمع الفلسطيني الذي جرى توزيعه والفصل بين أقسامه جغرافياً وديمُغرافيَّاً وسياسيَّاً وبعثرته في مناطق متفرِّقة داخل فلسطين وخارجها بفعل ما فرضته حدود النكبة والهدنة والتقسيم – وقد توزع المجتمع الفلسطيني الذي أُعيد توحيده تحت السيطرة الإسرائيليَّة والاحتلال بعد عام 67 قبل ذلك في مناطق الساحل والجليل والنقب وما تبقَّى فيها من فلسطينيين بعد التهجير وفي كلٍّ من منطقة الجبل والدَّاخل التي باتت تُعرف بعد عام 48 باسم الضِّفة الغربية التي أصبحت تحت السيادة الأردنية وكذلك في قطاع غزَّة الذي أصبح تحت السيادة المصرية، وبسبب هذا التوسع الإقليمي لإسرائيل في كل تلك المناطق كنتيجة من نتائج حرب حزيران وانطلاق فكرة المشاريع الاستيطانيَّة المبكِّرة فيها منذ شهر آب عام 67؛ قال عماونويل سيفان واصفاً ذلك بالحالة الكولونياليَّة. ولذات السَّبب، إضافةً إلى أنَّ تلك المرحلة مثَّلتْ علامة فارقة ومحطَّة بارزة في المحاولات الدَّائبة لبلورة هويَّة فلسطينيَّة مستقلِّة منذ ما قبل نكبة عام 48؛ قال سميح القاسم ما قال موجهاً كلامه للشعب الفلسطيني، من أنَّنا الآن على مفترق طرق.
لكن، كثيرةٌ هي مفترقات الطُّرق التي كنَّا عليها بعد ذلك، والتي لا تقل أهميَّة، ومنها المفترق الذي نحن عليه الآن، وقد كان وصولنا لهذا المفترق الذي ما زلنا نراوح فيه قد بدأ فعليَّاً وبلا أدنا شك منذ عام 1978 وهو تاريخ بدء مباحثات كامب ديفد بين مصر وإسرائيل؛ والَّتي أوجدتْ كثيراً من المبادىء وفرضت كثيراً من المفاهيم الجديدة المتصلة بمجريات الصراع ومنها خرق الإجماع العربي حول تلك المفاهيم وإعادة تعريفها وفق رؤىً جديدة متصلة بالسياسات والخطط والمصالح الأمريكيَّة بشكلٍ أساسيّ والَّتي ما لبثت أنْ طَغَتْ وعَمَّتْ، وقد تعمَّق وصولُنا إلى هذا المفترق في عام 1982 وهو تاريخ اجتياح لبنان والخروج مجدداً إلى منافٍ جديدة، ولمْ نستطع مغادرته بفعل تضييعنا لفرصة انتفاضة عام 1987 التي استطاعت وبشكلٍ استثنائي فرض القضية الفلسطينيَّة مجدداً وبعد كثيرٍ من التجاهل على جدول الأعمال الدولي والإقليمي؛ قبل أنْ ينشأ وبعد مرور ثلاث سنوات على الانتفاضة وضعٌ من التَّعادل أحسَّ فيه كلٌّ من الطَّرَفَيْنِ - إسرائيل والفلسطينيين- بالتَّالي بأنَّه مهزوم، وإنْ لم يكن مستعدِّاً للاعتراف بذلك لا أمام نفسه ولا أمام الآخرين، وقد كان شعور إسرائيل بذلك نتيجة عجزها عن اجتراحِ وسائل اعتادتها في فرضِ سيطرتها المطلقة.
أمَّا نحن فقد كان شعورنا بذلك نتيجةً لإخفاقنا في توظيف التجربة وترشيدها، وناتِجاً عن تكرارنا لأخطاءِ الماضي تجاه ترتيب أولويَّتنا ووضعنا الدَّاخلي؛ إذْ وعلى نحوٍ أحمقٍ وانفعاليٍّ وقصير النَّظر ومنذ تجاوزت الانتفاضة أشهرها الأولى قدَّمنا أولويَّة خلافاتِنا وتنافسنا على النفوذ والسيطرة على مجتمعنا ووفق حساباتٍ ضيِّقة – وهو ما سنواصل فعله فيما بعد وحتى الآن - على كلِّ أولويَّة تتعلَّق بالأهداف الشَّاملة لتلك الانتفاضة التي كانت عفويَّة وشاملة قبل أنْ تؤخذ إلى ممرَّات الفئويَّة وإلى الاعتبارات الشَّعبويَّة والرَّسميَّة البرَّاقة المتَّصلة بمعطيات حسابات النِّسَب المئويَّة من التأييد الشَّعبي، تلك المعطيات التي كانت مُضَلِّلَة في نتائِجها وعديمة الأهميَّة من حيث دلالاتها ومعطياتها السِّياسيَّة وخاطئة لجهة ترجمتها سياسيَّاً وثقافيَّاً، وقبل أنْ تُسْحَبْ تلك الانتفاضة أيضاً إلى مربَّعات التنافس بين قيادات الدَّاخل والخارج؛ وبفعلِ كل ذلك وبفعلِ حساباتٍ أكثر ضبابيَّة وخطأً فيما بعد؛ فقد عَلِقنا في هذا المفترق منذ عام 1993 أيْ منذ ربع قرنٍ أو يزيد وما زلنا.
وقد أصبَحَ المتغيَّر الثَّابت - والمستقل عن إرادتنا للأسف - ومنذ أنْ عَلِقنا على هذا المفترق هو ديمومة الأوضاع المُؤَقَّتة واستعدادنا للتعايش مع ما تفرضه من مفاهيم ووقائع. وقد رافق المكوث الطويل على هذا المفترق صَخَبُ الانفعال تجاه أنفسنا وضجيج المناكفات وكثيرٌ من الخسائر في معاركنا الدَّاخليَّة، وكثيرٌ من التَّضحيات دون استثمارٍ سياسيٍّ فعَّال، وكذلك الإمعان في عدم الاعتراف بنتائج الخطأ أو على الأقل الغباء السياسي أثناءَ أدائنا المتعثِّر، ودون الاستعداد للاعتراف بالأثر الأكثر مضاءً لواقع الضبابيَّة المتِّصلة بالمفاهيم التي اعتقدنا خطاً أنَّها واضحة ومنها المفاهيم الأمريكيَّة للتسويَة السِّلْميَّة، التي يعبَّرْ عنها الآنْ بوضوحٍ وصراحة وبكل فجاجة كل من الرَّئيس الأمريكي ونائبه، وقد انتبهنا لهذا الوضوح الآن وربما بعد فوات الأوان، والذي كانَ واضِحاً لمن أرادَ أنْ يراه منذ وقفنا على هذا المفترق ابتداءً بعام 1978 أو منذ عام 1993 على الأقل.