أثناء انعقاد المجلس المركزي وبعده، كان من اللافت والمقلق عزوف الشباب (وهم غالبية المجتمع) عن الاهتمام بتفاصيل النقاش السياسي الدائر والتركيز على التهكم والاستهزاء والسلبية سبيلا سلبياً للتعبير عن الضيق الواضح بين الناس مما آلت إليه الأمور ومن شعورهم بالتهميش السياسي في المرحلة المفصلية التي تمر بها القضية الوطنية. وقد وصل التهكم على أعمار وصحة أعضاء المجلس المركزي حد التعدي على كرامة الناس ولم يفلح المحتجون على هذا الأسلوب، وأنا منهم، من نقل النقاش إلى مربع التفكير والفعل إلا في حالات نادرة. وفي هذا السياق، كانت مبررات التهكم تتراوح ما بين الإحباط السياسي والمطالبة بالتغيير وتجديد الدماء من ناحية والمطالبة بهدم المعبد كله من ناحية أخرى. لكن المفارقة كانت أن بعض المتهكمين ينتمون ولو شكلياً لتنظيمات لها ممثلين في أطر منظمة التحرير وحتى بعض هؤلاء كانوا يجهلون المتطلبات الإجرائية لتغيير الأعضاء في هذه الأطر وغير مستعدين لمناقشة غياب الانتخابات الداخلية في أطرهم التنظيمية منذ عقدين أو يزيد.
وبعيداً عن التهكم والنقاشات التي لا طائل منها سوى طحن الماء وصناعة الإحباط، يبقى السؤال الحاضر في الذهن هو حول غياب المواطنة الفاعلة والحراك الاجتماعي والسياسي المطلوب لتجديد الأحزاب والتنظيمات والدفع بالارتقاء بمنظمة التحرير الفلسطينية وحماية صفتها التمثيلية للكل الفلسطيني وموقفها الصلب في مواجهة إدارة ترامب وحلفائه القريبين والبعيدين. ما الذي يمنع الشباب من فرض الانتخابات في تنظيماتهم أو تشكيل تنظيم يمثلهم؟ ما الذي يمنع من الدفع بمطالب سياسية واجتماعية محددة والعمل على إقرارها، خاصة في ظل التوافق البياني على الأقل بين مواقف التنظيمات والمنظمة من جهة والرأي العام من جهة أخرى فيما يتصل بفرض المقاطعة والعقوبات الاقتصادية على الاحتلال ومحاسبة إسرائيل في المحافل الدولية والتصدي لترامب وصفعة القرن المزمع تقديمها وغيرها من العناوين الكبيرة؟
العزوف عن الانخراط في الحياة السياسة عادة ما يكون في الدول المستقرة والمزدهرة أو الدول البوليسية القمعية ذات اللون الواحد ونحن في فلسطين لا ننتمي لأي من المجموعتين رغم ما يعتري حياتنا السياسية من إشكاليات وبالرغم من التعدي على الحريات الموجود في كثير من الأحيان. أما أن يكون الإحباط عنواناً للعزوف فهو عنوان لانفجار مؤجل لا يمكن أن ينتج عنه تصحيح في المسار أو تعديل في البرامج لأنه سيكون جارفاً وعارماً وهداماً ومفتقراً للرؤى المطلوبة. العزوف الراهن ناتج عن إفلاس تبرر فيه التنظيمات غير المتجددة أفول تأثيرها وافتقارها لطرح سياسي بديل، فضلاً على تمسكها بفلكلور الجكر السياسي الهدام. هذا أيضاً يتجلى في مجموعات من شخصيات، منها أيضاً أعضاء بارزين في تنظيمات سياسية، يطرحون مواقف متعددة باعتبارهم مجموعات من المستقلين!
لا يختلف اثنين على حاجة مؤسسات منظمة التحرير الملحة للتجديد من خلال الانتخابات حيث أمكن والتوافقات السياسية حيث تتعثر إمكانية الانتخابات. ولا شك أيضاً أن الانقسام المستمر يقسم ظهر الشعب الفلسطيني ويجعله يبدو وكأنه لقمة سائغة للذئاب المتكالبة من حوله. لكن الظروف الراهنة ليست قدراً محسوماً إلا إذا سلم الغالبية منا لحالة السلبية والعزوف. هذا القدر البائس يترسخ كلما سمحنا لطرف سياسي مهما كبُر حجمه أو صغُر أن ينفي عن نفسه أي قدر من المسؤولية وأن يبحث عن طرف يلومه عما آلت إليه أحوالنا. الحق ليس على الطليان كما يقول المثل بل الحق على الهاربين من مسؤولياتهم والمتسترين تحت شعار الندب واللطم السياسي المستمر حول قلة الحيلة واتهامات الآخر التفرد بالقرار. هؤلاء يسوقون لما يعفيهم من تحمل المسؤولية وبيررون لأنفسهم وتنظيماتهم ذات الخشبية والجمود التي يهاجموها في منظمة التحرير متآكلة الحضور والتأثير.
ومع كل هذا وذاك وبالرغم من كل متلازمات اللوم واللطم الموجودة، لا يملك الفلسطينيون خيار الاستسلام لواقع السلبية والوهن المزمن ولا يملك أحد ترف القول "هم خربوها خليهم يصلحوها". الكل الوطني في قارب واحد شاء أم أبى، فإما أن نغرق معاً في غياهب النسيان والنفي السياسي الذي يحاك لنا أو أن ننهض معاً لنحمي على أقل تقدير قضية شعبنا وحقوقه من الزوال.
في مسيرة شعبنا النضالي الطويلة، تميز الفلسطيني بقدرته على ترسيخ الوقائع الإيجابية ومن أهمها التمثيل السياسي الفلسطيني الذي بات يواجه الخطر الشديد بسبب الانقسام والجكر والعزوف والسلبية داخلياً والاستعداد للتقويض السياسي والاستبدال من قبل ترامب ومن يسانده خارجياً. في هذا الإطار، ولو من باب توظيف الجكر بشكل إيجابي، أمامنا مسؤولية جمعية لحماية التمثيل السياسي الفلسطيني من خلال الانخراط الفاعل في حمايته وتطويره وتجديده وتطبيق قراراته.
في هذا السياق، يمكن لقرارات المجلس المركزي أن تشكل فرصة لانطلاقة جديدة لمفهوم المواطنة الفاعلة وترجمة للمسؤولية المنوطة بالجميع في ظل وحدة المصير. القرارات لم تلبي مطالب الجميع وهذا كان من المفترض أن يكون متوقعاً من السياسيين على أقل تقدير في ظل الظروف السياسية والإقليمية المعقدة. لكن القرارات تحوي عناوين كبيرة وعامة تفتح المجال واسعاً أمام كل فئات ومؤسسات الوطن والشتات الانخراط في عملية ترجمتها إلى أفعال والتأكيد على ضرورة تحمل اللجنة التنفيذية لمسؤولياتها فيما يخص التنفيذ على المستوى الرسمي.
هذه دعوة لكل المحبطين والحردانين والغاضبين والمشككين والمهتمين بالتغيير لخلق حالة عامة من النقاش الجدي حول سبل تطبيق قرارات المجلس المركزي ومتطلبات التطبيق وأشكاله، تفضي إلى مقترحات محددة ومطالب ضاغطة على دوائر صنع القرار ومؤسسات الوطن. هي دعوة لكل من يمتلك فكرة أن يترجمها إلى مقترح واضح المعالم ويقدمها للنقاش ويفتحها للتعديل من أصحاب الأفكار المتقاربة لتصبح مقترحاً ضاغطاً وداعماً لمقتضيات المواجهة مع الثور الأمريكي الهائج ومتطلبات حماية شعبنا ووجوده وصموده على الأرض. الخطوط العريضة في قرارات المجلس المركزي تطال كل المجالات والاختصاصات وتتطلب الإبداع والابتعاد عن معادلات الكسل السياسي مثل الاجترار والقولبة.
مسيرة الشعب الفلسطيني النضالي بدأت بفكرة وتحولت إلى ثورة بسبب المبادرة، والثورة بدورها حولت اللاجئ إلى ثائر والكاتب إلى قائد والشاعر إلى عنوان من عناوين الوعي الجمعي. كل هذا لم يكن ممكناً دون المبادرة والجكر الإيجابي والمناوشات الفكرية والاستعداد للدفاع عن فكرة.