الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تيار الوعي في رواية "تدكرة وحيدة للقاهرة" لأشرف العشماوي نانسي إبراهيم‎

"في عالمنا هذا لا يوجد شيء يصعب تصديقه مثل الحقيقة!" (باولو كويلو)

2018-01-25 03:05:19 PM
تيار الوعي في رواية
د. نانسي إبراهيم

ينطبق قول "كويلو" على رواية "تذكرة وحيدة للقاهرة"، التي بين أيدينا، بجدارة..فبالرغم من التنويه التقليدي في البداية عن أن "معظم شخصيات الرواية غير حقيقية ومن نسج الخيال وأي تشابه بينها وبين الواقع هو مجرد مصادفة"؛ فإننا نجد أنفسنا أمام قضية حقيقية برؤية السارد الحقيقي "أشرف العشماوي"، الذي اقترب من ملف (قضية النوبة) من خلال عمله بالقضاء المصري مكتسبا خبرة المعايشة والكشف في رؤية درامية بانورامية، محملاً بكثير من التفاصيل التي سمعها من شخوصها الحقيقيين، مختزلا ما يقترب من نصف قرن من الزمن..

 

حيث تبدأ أحداث الرواية منذ التعلية الثانية لخزان أسوان عام 1933-والتي سبقتها تعلية أولى عام 1912- منذ عهد الملك فؤاد الأول مرورًا بالفترة الناصرية،ثم فترة الانفتاح الاقتصادي تحت حكم السادات.

 

عند القراءة الأولية للرواية يطالعنا العنوان بوصفه عتبة نصية أولى-وربما أخيرة- في جدلية تشبه جدلية المبتدأ والخبر في جملة اسمية مفيدة؛ فنجد دلالة مفردة (وحيدة) -التي تختلف-بالطبع-عن دلالة (واحدة) وصفًا لـ"تذكرة"؛ فهي وحيدة لا ثانى لها لا رجعة فيها، هي التي سافرت بشخوصنا نحو اللا عودة، إلى تلك القاهرة التي جعلت بعض أبطالنا مقهورين منذ فقد (عجيبة) الأب حياته في غياهب مائها قاصدًا أو غير قاصد، وربما هي تلك التذكرة الوحيدة التي ظلت في جيب (عجيبة) الابن عند مختتم الرواية ولم تعينه على الرجوع..

 

-عند الشروع في قراءة أول خمسين صفحة من مجمل أربعمائة وواحد وسبعين من القطع المتوسط (عن الدار المصرية اللبنانية) يدرك القارئ أنه أمام روايتين برؤيتين سرديتين مختلفتين لا رؤية واحدة..

 

-يبدأ السرد الأول برؤية (راو عليم) على مشهد (سباق الخيل) ، والشخصية الأولى فيه (شفيق باشا المغازي) وابنه (بدر) الذي لا يكف عن مضايقة أبيه والاستحواذ على كل شيء لا يخصه، بينما يتابع الأب حصانه (بدر)-الذي أسماه باسم ابنه تيمنا-بحماس شديد، هذا المشهد الذي تكرر مرات في الرواية كان ضمن أواخرها خسارة الفرسة(مسكة) في السباق في دلالة رمزية..

 

تستمر الرواية في رصد أدق التفاصيل المشهدية في رؤية (سردي/سينمائية) تصل بنا لمشاهدة النص الذي بين أيدينا عبر (مونتاج) يسمح لنا بحرية التجول عبر الزمان والمكان والمعتقدات في مشاهد متتابعة تمهد لظهور الشخوص تباعًا.

 

يظهر السير (وليام ويلكوكس) "المهندس الإنجليزي والخبير بإنشاء السدود المائية" -وهو شخصية حقيقية لها وجودها التاريخي- لتبدأ الخيوط الدرامية في التشابك عبر نسيج محكم يعيد تصميم ولصق ومزج الحياة الأولية المعتمدة على الواقع دون أن تخل بالسرد الإبداعي المعتمد على الإيهام.

 

-ثم تتوقف حركة السرد في منطقة بعينها؛ لتفسح المجال لسرد إضافي وربما رئيسي وربما مواز، وربما سرد منصف تقنيا لسارد كان مجهولاً في البداية وهو يرقب حركة (التماسيح) في نهر النيل بمنطقة (النوبة)، تلك التماسيح التي سنجدها تطل علينا في شتى أجزاء الرواية منذ وجودها منقوشة على خنجر (السير ويليام) الذي أهداه لـ(شفيق المغازي ) وهو يقنعه ويقوم بإغرائه بالأموال نظير تعويض النوبيين عن أراضيهم،في وجود السائق النوبي الذي يحمي رأس سيده الأجنبي من المطر،بينما لا يدرك أنه "من سيقطف رأسه ويقضي على آخر ما تبقى من سلالته" في مفارقة مؤلمة..

 

تلك التماسيح التي أصبحت طوطما مقدسا لبطولة مفقودة تشهد عليها عمليات التحنيط،والتي لم تفارق مخيلة (عجيبة) بطل الرواية صاحب السرد الأوحد المكتوب بضمير المتكلم بخط قاتم..

 

ويعد تعدد مستويات السرد في الرواية الواحدة من أهم سمات الرواية الحديثة-كما يشير باختين- كما أنه سمة مائزة لرويات (تيار الوعي) التي تقترب من الأصداء التاريخية وإعادة إنتاجها فيما يعرف بـ (رجع الصدى) resonance حيث يشير (ستيفن جرينبلاط) إلى هذا النوع باعتباره أدب قضية يحمل ذاكرتين؛ الأولى (قومية) تقترب من فكرة "الأيديولوجيا" وتخلخلها، والثانية؛ (ذاتية) من خلال التغلغل في كشف الأغوار النفسية للشخوص.

 

ومن ثم نجد أنفسنا أمام قضايا عدة، بعضها كان سببا في سير الأحداث، وبعضها كان ظلا؛قضية النوبة،تهجير النوبيين وغرق بعضهم في أراضيهم، التعويضات، التخابر، ثورة يوليو بكل ما بها من متناقضات، قضية تهجير اليهود بعد الثورة، قضية اللون والجنس والعرق، قضية التوكيلات التجارية، قضية السلطة والقمع، والشيوعية وغيرها.

 

ثم ما تلبث أن تذوب تلك الذاكرة القومية في أخرى ذاتية ترصد التطورات النفسية لشخوصها وأثر كل الأحداث الخارجية عليها،والتي جاءت في الرواية على جانبين (شخصيات قاهرة/شخصيات مقهورة).

 

تجسد الرواية حياة شخوصها؛ "عجيبة" الابن الذي أصبح عجيبة فعلا (عجيبة الأب/ثم الحفيد المفقود)،(مسكة/الزوجة) التي تمثل أرض النوبة بطهرها ولونها وعطرها.. وعلى الجانب الآخر (بدر/شفيق المغازي/باتريشيا)..تقع بينهما الشخوص الثانوية مرتبطة بالأحداث (ناصر/فارس حبيب/موسى بركات /عاشور الجزار/كوثر كودية الزار/عوض/برنار)وغيرهم معتمدة على الايقاعات المشهدية التي تعكس هزات المجتمع المصري منذ الأربعينيات وحتى بداية السبعينيات من خلال تقنيات الحذف/الوقفة/المشهد، متجولة عبر الأماكن من أطراف الوادي للقاهرة للإسكندرية لسويسرا، وعلى أصوات متعددة لا يقتصر دورها على اللغوي فقط، بل تمتد نحو الانتماءات والأفكار عبر مونولوج (داخلي أو خارجي) يشي بذاكرة مثالية لسارد حقيقي استطاع أن يرسم صورة لبطل/لا بطل عبر الواقع الأليم والمفارقات الساخرة مبتعدا عن التاريخية التوثيقية قدر ابتعاده عن العجائبية الغرائبية من خلال رصد صور من البطولة السلبية المهمشة،التي تنتهي بكبش الفداء معتمدة على شفرة إيديولوجية ثقافية لا تحلق نحو السماء قدر اصطدامها بالأرض مصطبغة بأحداث الواقع المعاش، والتي تقترب من روايات (تيار الوعي) -كما أشار إليها (روبرت همفري) في كتابة (تيار الوعي في الرواية الحديثة) عند روادها من أمثال فرجينيا وولف وفوكنر وجيمس جويس وغيرهم.