احدودب المتراصون على المقعد الخشبي منكسي رؤوسهم السوداء كأعواد ثقاب متفحمة، مشيحي النظر عن الأجساد المتراكمة المدماة المتكوّمة أمامهم داخل الخندق العطن ذي الحوائط الرملية الهشة
وقف "المساعد" أمامهم بزيه المموه المتلطّخ، وعيناه الزائغتان تكرّ و تفرّ في الاتجاهات الأربعة، قال بحروف أبحّة محطمة :
" بالرغم من صعوبة ما مررنا به اليوم، إلا أننا لا يجب أن نشعر بأن معركتنا قد انتهت، لقد تكبدنا خسائر جمّة لكنها ليست نهاية الحرب، في الوقت الذي كنا نتأهب خلاله لتنفيذ عملية كبرى وبالرغم من تنفيذ ثلاث مهمات استطلاعية ، إلا أن أمراً ما غير معلوم بعد قد غيّر المعادلة برمتها، تلقينا قصفاً كثيفاً على مدار أربعين دقيقة ، فقدنا خلالها ثمانيةً من خيرة رجالنا "
أطرق هنيهةً ، نكّس رأسه ، ثم استطرد
"وخسرنا قائداً وطنياً كبيراً، ( أبو الزعيم ) ذلك القائد الذي آثر الصمود مع جنوده شاهراً سلاحه وحاملاً روحه على كفه فادياً كتيبته ووطنه ، هذا قدر الوطنيين المخلصين الذين سيشرف التاريخ بتخليد أسمائهم وسرد قصص كفاحهم، كما لابد من الإشارة الى...."
قاطعه الجندي الأول و قطعة قماش رثة تلتف فوق ساقه المخضّبة بالدماء :
- وماذا سيسرد التاريخ حول استشهاد " أبو الزعيم " ان كنا نحن جنوده في المعركة لا ندرك حقيقة ما جرى ؟
نظر الى أترابه الذين هزوا رؤوسهم بتأييد وأسى
التقط المساعد إيماءات الجنود المتفقة مع استنكارات زميلهم ، حاول أن يستعير صوتاً جهوراً حكيماً :
- سيسرد التاريخ الحقيقة التي رأيناها بأم أعيننا ، سننقل كل ما حدث الى الأجيال القادمة ، سنقول أننا تدربنا طوال ثلاثة شهور في غياهب الصحارى وفي أصعب ظروف وبأقل الامكانات ، ورسم قائدنا خطة محكمة تهدف الى الهجوم على قاعدتين للعدو وأسرمن فيهما ، حفرنا خندقين على حدود قاعدتي العدو ونقلنا السلاح إلى أحدهما ، وقبل التنفيذ بدقائق أغار طيران العدو وقصف الخندق الحاوي أسلحتنا مما جعل التفجير مهولاً أدى الى استشهاد أبطالنا القابعين في الخندق آنذاك ، أما "أبو الزعيم" فقد اتخذ موقفاُ بطولياً فور بدء الغارات حيث غادر خندقنا باتجاه الخندق الآخر رافضاً ترك جنوده مع الأسلحة الثقيلة والمتفجرات آملاً في إخراجهم ، لكن كثافة القصف وانكشافه التام أمام طائرات العدو لم تمكنه من الوصول الى رجاله ، فقدنا بطلاً يستحق أن يخلده التاريخ مع قوافل الشهداء والأبطال
رفع الجندي الثاني رأسه بتباطؤٍ إلى أن استقرت عيناه في مواجهة عيني المساعد :
- هذا ما سيذكره التاريخ ؟ هل هذه هي القصة برمتها ؟
- هل لديك تفاصيل أخرى لا أعلمها ؟ قال المساعد
- بل لدينا استفسارات كثيرة لا زالت بلا إجابة ، ولا يمكن أن نقرّ الحكاية التي أسلفتها دون أن نجد إجابات لتلك الأسئلة التي تحاصرنا ، أولها أن الشهيد "أبو الزعيم" لم يكن من المفترض أن يشارك ميدانياً في هذه المهمة ، لكنك صممت على غير العادة أن يشارك بنفسه !! كذلك عندما باشرتم بوضع خطة التحرك حاولت اقناع "أبو الزعيم" بكافة السبل بأن يظل متواجداً في خندق الأسلحة ، وكدت أن تنجح بالفعل لولا أن اتخذ قراره بأن يدير المعركة من الخندق الآخر !! أخيراً لم يَرَك أحدٌ خلال المهمتين الإستطلاعتين الأخيرتين ، أين كنت خلال تلك الفترة ؟
انتفض المساعد حانقاً عاقداً حاجبيه الكثيفين :
- ما الذي ترمي إليه أيها الجندي ؟؟ كيف تتجرأ ؟ سأحيلك الى المحاكمة فور انتهاء المهمة ، هل وصل بكم الأمر الى الشك بي ؟ وأثناء تأدية مهمة عسكرية ؟؟
أجاب الجندي الثالث بلهجة صارمة :
- إذاً أجب عن تلك التساؤلات
- غير ملزم بتقديم أي توضيح لكم ، هناك قيادةٌ تحاسبني ، ان أرادت
همّ جنديٌ بالتحدث لكن المساعد قاطعه بحسم مستكملاً حديثه بلهجة حكيمة :
- أقدّر تماماً ما تمرون به من حالة نفسية جرّاء ما تعرضنا له ، لذا سأتجاوز عن تلك الإساءات وسأوضح لكم ما لدي ، بالفعل لم يكن من المفترض أن يشارك "أبو الزعيم" في هذه العملية ، لكن مع ما بذله من مجهود وتخطيط وتحضيرات وحاجة عملية بهذا الحجم الى خبرة وحنكة عسكرية كالتي يمتلكها ، كلها عوامل جعلتني أيقن أن قيادته للعملية أمر شديد الضرورة ، كان القرار له وكل ما فعلته هو أني رجوته للبقاء معنا ، أيضاً كنت أظن أن النجاح في عملية كهذه هو خير تكريم لمسيرته العسكرية ، لكن الأمور لم تَسِر كما يجب
نظر الى أعين جنوده التي لم تبح بأي انطباع ، فأكمل حديثه :
- أما بالنسبة لطلبي له بأن يقود المعركة من خندق الأسلحة ، فذلك لأن الخطة المعدة كانت تقتضي أن تعدو المجموعة التي في الخندق الآخر لمسافة ثمانمائة متراً وصولاً الى نقطة الاشتباك ، خشيت أن تخذله لياقته التي لم تعد كما كانت في السابق ، كذلك التعامل مع كمية الأسلحة والمتفجرات الموجودة كانت تحتاج تدبيراً حكيماً ولم يكن ثمة أقدر من القائد نفسه للإشراف على توزيعها وفقاً لما هو مخطط
لم يعلق أحد من الجنود ، فأكمل المساعد بلهجة حاسمة :
- بعد انتهاء المهمة الاستطلاعية الأولى انتاب "أبو الزعيم" شعور كبير بالطمأنينة ، بل وتصاعد طموحه الى مراحل أكبر مما كان مخطط له ، فأخبرني أنه سيستكمل المهمتين التاليتين بنفسه ، وأرسلني الى مقر القيادة العامة لطلب قوات اضافية تعمل خلف المجموعتين الرئيستين ، وتُوَسّع مناطق الهجوم بعد الانتهاء من القاعدتين المستهدفتين ، لكسب مزيداً من الأرض ، ولأسر أكبر عدد ممكن من المتواجدين في تلك القواعد ، لكن القيادة رفضت واعتبرت الأمر مغامرة وتهوراً ، وحملتني رسالة "لأبي الزعيم " طالبته خلالها بالإلتزام بما كان مخططاً سلفاً ، والتركيز على أداء المهمة بأقل الخسائر الممكنة
ساد المكان سكوناً مهيباً ، وتوتر دفين جال الصدور، قبل أن يكسر الصمت الجندي الثالث :
- سيادة المساعد ، ماذا عن الخلاف الذي كان بينكما منذ شهور قليلة ؟
أجاب المساعد باستنكار :
- عن التقرير المقدّم منه ضدك الى القيادة يتهمك فيه بمخالفة الأوامر العسكرية ويطالب بتتبع تحركاتك
- لا أعلم شيئاً عما تقول ، هذه محض تخاريف لا صحة لها ، ومن المستحيل أن يفعل "أبو الزعيم" ذلك، كان قائدي ومعلمي ، وكان يعتبرني ذراعه اليمنى والجميع يعلم ذلك ، وبيننا من العلاقة ما يفوق كثيراً ما ترمون إليه بتحليلاتكم العبقرية ، ستحاسبون على كل ما تدعّون
شعر المساعد بإرهاق مفاجىء وتعرّق وجهه بغزارة ، اقتعد الأرض الطينية وأركى رأسه إلى الحائط
تحلّق حوله الجنود واجمين
نظر الى ساعته
قال بأنفاس متلاحقة وصوت خافت
- بعد احدى عشرة دقيقة سترسل لنا القيادة أوامر التحرك على الموجة المتوسطة ، فكوا رموزها ونفذوا ما بها من تعليمات
أسرع جندي وأدار المذياع :
- دعونا نستمع الى نشرة الأخبار لحين ورود التعليمات
جاء الخبر الأول في الأنباء :
"أكدّ أبو الزعيم أن العنف لا يولّد إلا عنفاً ، وأن لا بد للمنطقة من مرحلة جديدة تقوم على الاندماج التام بين كافة عناصرها "