الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مرآة المستقبل لـ القاصة أحمد جابر

2018-01-26 12:53:15 PM
مرآة المستقبل لـ القاصة أحمد جابر
أحمد جابر

لم يكن هذا اليوم جيّدًا، فكل ما بعته كان خمسة أغلفة للهويّات، وحبتين شوكولا، وثلاثَ عشرة علبةً من العلكةِ فقط. أضع ما بقي من حاجيّات البسطة في حقيبتي السوداء، وأفكّك قطع الخشبِ ثم أضعها بجانب باب المخبز الذي سمح لي صاحبه بترك أغراضي عنده في الليل لآخذها منه صباحًا، خاصة وأنه أول من يفتح محلّه مستقبلًا رزقه.

 

أعودُ جارّا خيبتي، أعدّ ما جمعتُ من نقودٍ للمرة السادسة رغم تيقّني من أنني عددتها في المرة الأولى بدون خطأ، أمرّ على مطعم فأشتري شطيرتين نالتا من عينيّ لمعتهما، مما أدى إلى تحرّك يدي اليسرى على بطني بطريقة بلهاء، أجلس قريبًا منه على درجةٍ مكسورة طرفها ريثما أنهي الأكلَ.

 

 أكمل المسير إلى الغرفة التي استأجرتها من أحدهم، إنه أكثر من أشفق عليّ ممن التقيتهم، فهو قد خصّص لي هذه الغرفة تأويني دون أجرة أدفعها له، مقابل حراستي لبيته، وهو يعلم تمامًا أنني لا أقوى على السهرِ، لكنّ ما حصل أنني رفضت أن يكون مبيتي دون مقابل فطلب منّي الحراسة، فوافقتُ.

 

 قبل وصولي إلى بيتيَ بكيلومتر، أنزل الحقيبة من كتفي الأيمن جاعلًا إياها محمولة على الأيسر فقط مما يسمح لي أن أمدّ يدي بسهولة لأفتش عن المصباح الصغير الذي أستخدمه في هذا المكان لانعدام الضوء، لكنّني أتعثّر بشيء فأقع على ركبتيّ متأوّهًا إثر كشطٍ حادٍ نال منهما. تدمع عيناي، فأمسحهما بطرف الثوبِ ثم أشعل المصباح لأكشف عما تعثّرت به، فإذ هي بخبطة قدمٍ لأحدهم، يبدو أنه بالخطأ أو ربما قاصدًا كان قد خطا هنا قبل أن يجفّ الإسمنت تمامًا فبقيت خبطته شاهدةً على تحرّكه في المكان.

 

 فضولي يقودني لأضع قدمي في التجويفة التي صنعتها قدمه، ولدهشتي أجدها قد تطابقت تمامًا مع قدمي، وكأنني أنا من كوّنتها، كأنني أنا من كنتُ هنا، لكنها في الحقيقة ليست لي. لم أنم أبدًا وأنا أفكّر في كيفية حدوث هذا الأمر. أنتظر الصباح ليأتي، فأخرج مسرعًا لطرق باب المنزل الذي أمامه تلك المساحة من الإسمنت، ناويًا سؤالهم. فأؤجل الأمر لما بعد الظهر، أترك عملي وأعود إليه، أرنّ الجرس فتفتح لي سيدةٌ الباب، أسألها عما إذا كانت هذه الخبطة لأحدٍ ما من أسرتها فتقول ربّما، لكن "ربما" هذه لا تكفيني، أكشف عن "نمرة" القدم في الأسمنت فأجدها 44، فتذهب لتتأكد من أحذيتهم فتجيبني بأنها ليست لهم، ثم تشتم صاحب الخبطة لأنّه شوّه المنظر. أسألها عنه، فتجيبني بأنه هو الوحيد الذي من الممكن أن كوّنها فلا أحد غيره اشتغل هذه المساحةَ، وتدلّني بعد طلبي على مكانه.

 

أفتّش عنه، بعد أن تركت بسطتي عند صاحب المخبز، لأجد أن العنوان يشير إلى بيتٍ جميلٍ متقن الصنعِ، أطرق الباب، فيخرج لي رجلٌ مُتعبٌ لكنّه يبتسم، وفي عينيه السوداوين لمعة حزنٍ أعرفها جيّدًا، أسأله عن تلك المساحة من الإسمنت فيجيبني بأنه هو من أنجزها، أطلب منه أن أحدّق بوجهه دقيقتين، فيوافق بعد ضحكةٍ صغيرةٍ كأنه - سبحان الإله - لم يضحك قبلها. وبعد أن انتهيتُ، يسألني عما قمتُ به، فأجيبُ: ربّما يومَ أكبرُ لا أجد ما أشتري به مرآة أرى بها وجهي، ربّما أموتُ أصلًا قبلها، وأردتُ أن أرى هل سأكون حزينًا كما الآن أنا أم لا، أحبّك أيها السيّد، سأكون مثلكَ سعيدًا.