كانت حمامات زوار معتقل عوفر غارقة في المياه المتسخة بفعل أقدام الناس بشكل يجعل دخول الحمام إزعاجاً آخر يضاف إلى منغصات التواجد في ساحة الانتظار التابعة للمعتقل. نظر صديقي، الذي كان ينتظر مثل غيره من الناس، إلى أرضية الحمام بضيق ثم أمسك الممسحة وشرع من فوره في مسح الحمام.
بعد أن انتهى من عمله فتح باب الحمام وقال بابتسامة سعيدة: "علشان ينشف." ثم بشكل تلقائي تماماً: "يا زلمة مهي هذي الحمامات إلنا مش إلهم." لم يكتف نجيب فراج بذلك، وإنما انتقل إلى الساحة يلتقط الأوراق وأغلفة البسكويت والسكاكر وعبوات المشروبات الفارغة عن الأرض ويضعها في سلال النفاية.
وقد اضطر في النهاية أن ينام في رام الله بسبب تأخر موعد المحكمة حتى ما بعد المغرب. في الصباح كان نجيب قد قام بغسل الأطباق في مطبخنا وترتيب الغرفة التي استضفناه فيها من بين أشياء أخرى.
الواقع أنني كدت أكرهه بسبب الإحراج الذي وضعني فيه أمام زوجتي، فقد وضعني في مقارنة صعبة بين رجل "يتحدث" عن المشاركة في كل شيء إلى جانب المرأة، وهو ما أنا عليه تقريباً، وبين رجل يفعل أكثر ما يقول. مليون تحية محبة وتقدير للجميل نجيب فراج الذي يشكل نموجاً نادراً لإنسان المستقبل العربي والفلسطيني.
حاشية حول مقاطعة المحاكم: قضينا وقتاً طويلاً بدا زمناً سرمدياً لا نهاية له منذ الساعة العاشرة صباحاً حتى السابعة ليلاً من أجل حضور محاكمة خالد فراج. التمثيلية المزعجة للمحكمة طرقت في رأسي بقوة موضوعة مشاركتنا في تمرير تمثيلية العدالة "الإسرائيلية". ترى ما الذي يدفعنا إلى حضور أنشطة تلك العدالة وتطبيقاتها المختلفة؟ يدور الكلام بين وقت وآخر عن مقاطعة محاكمات "الإداري".
لكن لماذا لا نقاطع المحاكم كلها دون استثناء، ولماذا دخلنا في هذه اللعبة أصلاً منذ أن اقترحها الاحتلال وحدد ملاعبها وشروط اللعب فيها وقواعدها التفصيلية؟ نقصد من هذا السؤال: ما الذي نربحه في المستوى السياسي أو في مستوى مصلحة المعتقل من تعيين محامي ومناقشة الادعاء ومحاولة إقناع القاضي ب "براءة" المعتقل الفلسطيني مما ينسب له. المعتقل الفلسطيني جريمته عموماً هي شكل من أن أشكال مقاومة الاحتلال. وهذه المقاومة ممنوعة "قانونياً".
إذن نحن نخسر لأننا نخالف القانون. لكننا نسمح للاحتلال بأن ينتزع منا إقراراً بأننا نقبل لعبته القانونية. ترى ماذا كان سيحل بالمعتقل لو لم نذهب إلى المحكمة؟ لا شيء أكثر من الذي يحل به ونحن نمارس اللعبة البهلوانية المسماة بالمحكمة. كان من واجبنا بدئياً أن لا نتعاطى مع الاحتلال ومحاكمه، ونتركه ليفعل ما يشاء ما دام فعلياً يفعل ما يشاء في حدود ما تسمح به قوته. كان من الحكمة أن نسلك على أساس أن الوجود الاحتلالي هو جوهر الموضوع . القانون أصلاً هو المشكلة وليس تطبيقه.
ومثلما أشار أناتول فرانس منذ أزيد من قرن من الزمان إن المصيبة لا تنتج عن تطبيق قانون حظر النوم تحت الجسور، وإنما عن وجود القانون ذاته. من الذي سينام تحت الجسر؟ إنهم الفقراء المعدمون الذي لا يجدون سقفاً يؤويهم. ونحن نصدق المشرع الأمريكي حين يزعم أن القانون يطبق على نحو نزيه على الجميع. لكننا نعرف أن بيل جيتس وجورج سورس ودونالد ترامب...الخ لن يناموا تحت الجسر، وإنما فئات من السود واللاتين الهائمين في الشوارع. في حالتنا الفلسطينية علينا أن نمضي خطوة أخرى بعد أناتول فرانس: ليست المشكلة في تطبيق القانون، ولا في القانون ذاته، وإنما في وجود الدولة التي تشرع القانون الذي يحمي وجودها الاحتلالي غير الشرعي في أرض اغتصبت اسمها فلسطين.
كان علينا منذ البداية أن لا نسمح لهم بممارسة ألعاب العدالة والديمقراطية الشكلية التي تخلق الأوهام محلياً وعربياً وكونياً أن الدولة المحتلة دولة قانون وعدالة بينما وجودها ذاته خرق فاضح للقانون والعدالة والحق. ربما يجدر بنا أن نطرح الاقتراح للنقاش على نطاق واسع: "قاطعوا محاكم الاحتلال ومسرحياته الهزلية كلها، لا محاكم الاعتقال الإداري وحدها."