المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية تستدعي دعوة حقيقية إلى التفاكر، فكفى تفرداً وعبثاً بمستقبل شعب يسعى للخلاص من الاحتلال الاستعماري الذي أصبح استمراره جريمةً وانكاراً للكرامة البشرية للفلسطينيين. عملت السلطة الفلسطينية منذ نشأتها – رغم اختلافنا على اتفاق نشأتها - ومن خلال المجلس التشريعي (الأول) على إعادة صياغة القوانين الفلسطينية وتوحيدها بين الضفة الغربية الخاضعة لمنظومة قوانين عثمانية وأردنية، وقطاع غزة الخاضع للقوانين العثمانية ذاتها ومصرية أيضاً، عدا عن منظومة قوانين وإجراءات عسكرية احتلالية. قصد المجلس التشريعي – 1996 حتى 2006 - في ذلك الوقت إلى إنشاء منظومة قانونية عصرية وناضجة، تُعزز بالحد الأدنى من الحقوق والحريات للمواطنين بما يكفيهم للصمود في وجه الاحتلال، ولتستند إليها مؤسسات الدولة الفلسطينية المأمولة.
وفي عيد ميلاد المجلس التشريعي (الثاني) الثاني عشر، عجز أعضاؤه عن القيام بأية مهام رسمية تدخل في صلب اختصاصه – التشريع والرقابة – سوى مهمة تلقي الرواتب على مدار تلك السنوات، ولكن ليس هذا بيت القصيد اليوم رغم الحاجة الى مراجعتهم لضمائرهم حول مشروعية تلك الرواتب التي يقبلون بها في جيوبهم.
بيت القصيد عبث حكومة "الوفاق الوطني" المستمر وبتسارع في المنظومة القانونية الفلسطينية ضمن الحالة الفلسطينية المعقدة والخاضعة للاحتلال. هذا العبث الذي أصبح يطال كرامة المواطن الفلسطيني الأصيلة من خلال قرارات بقانون، أنظمة وإجراءات شملت مختلف مناحي حياة المواطن. فمن قرار بقانون الجرائم الالكترونية، إلى قرار بقانون محكمة الجنايات الكبرى (محكمة أمن دولة)، إلى مشروع قرار بقانون المالكين والمستأجرين، إلى مشروع قرار بقانون حماية الأسرة من العنف، إلى إجراءات عقابية ضد قطاع غزة؛ خصم مرتبات؛ تقاعد مبكر اجباري للموظفين العموميين (فصل تعسفي)؛ إلى ملف التحويلات الطبية الذي يمس حياة مئات الأطفال الذين ينتظرون العلاج. ولنستكمل، إلى فضيحة تنصت الأجهزة الأمنية على المواطنين بمختلف مواقعهم، ولو كان الأمر في دولة تحترم حقوق مواطنيها لاُُقيل رؤساء الأجهزة الأمنية إن لم يكن وزير الداخلية، إلى تعديل أنظمة الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني لتعزيز السيطرة على نشاطاتها.
في الحالة الفلسطينية، أصبح مجلس الوزراء اليوم مؤسسة تنفيذية وتشريعية في ذات الوقت، ينظر المجلس في مشاريع القوانين بعدة قراءات، ويُشكل لجان متخصصة، أهمها لجنة مواءمة التشريعات مع الاتفاقيات الدولية التي انضمت لها دولة فلسطين، والتي خسرت مصداقيتها في باكورة عملها بمراجعة قرار بقانون الجرائم الالكترونية، حيث اعتمدت مبدأ التصويت على حقوق وحريات المواطنين وخصوصياتهم، وهو مبدأ يستدعى السخرية على حالنا. وفي الحالة الفلسطينيةاليوم، أصبح هناك انسجام عالي إلى حد التزاوج في الأفكار بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية التي اصبحت تُقوض في قراراتها الحقوق والحريات وتخشى الفصل في مصلحة المواطنين، ، حتى نادي القضاة وبعض أعضاء المحكمة العليا لم يسلموا من توجهات مجلس القضاء الأعلى عندما حاولوا التعبير عن آرائهم.
"سيادة الرئيس ... هناك من يسعى لتقويض الشرعية من المعارضين والمتآمرين وأصحاب الأجندات والأبواق" مقولات تستخدمها الأجهزة الأمنية في تقاريرها الأمنية التي ترفعها لسيادته موَثقةً لأسماء هؤلاء المعارضين والمتآمرين، مُؤَكدة بصور لبعض صفحات الفيسبوك، في استحضار للدول البوليسية وعصور الظلمات التي احكمت فيها الدولة سيطرتها على نُفوس البشر.
في النيوليبرالية الفلسطينية، اعتبرت السلطة الفلسطينية ذاتها قطاعاً خاصاً، إلى جانب بعض المستثمرين اللطفاء، فأصدرت الحكومة قوانين وأنظمة تعفيهم من التزامات واستحقاقات لمجتمعهم تشجيعاً لاستثماراتهم، فيما أصبح اقتصاد قطاع غزة منهاراً تماماً، والمواطنين في الضفة الغربية مديونين أو مقترضين في غالبيتهم العظمى. وفي ظل موازنة حكومية تعتمد في معظمها على مدخولات الضرائب المحلية، أصبح المواطن يدعو ربه كل صباح "اللهم وفر قوت أطفالنا ورواتب وزرائنا".
تسعى القيادة الفلسطينية منذ جريمة الانقسام إلى المصالحة والسيطرة على قطاع غزة، من خلال شراكة حقيقية تعتمد على اقصاء الآخر والحلول مكانه والتمكين، فهي على مدار السنوات الماضية، ومازلت، فاجرة في خصومتها اتجاه قطاع غزة، رغم أن بحبوحة أزمة الكهرباء التي عملت لتحقيقها جعلت السكان في القطاع يتمتعون في أربع ساعات وصل كهرباء عوضاً عن ثلاثة.
كل ما سبق، يستدعي التفاؤل، خاصة وأننا لم نتحدث بعد عن دولة الاحتلال الاستعماري، قوانينها وأنظمتها، إجراءاتها واستيطانها، فيكفي نظرة إلى حصار قطاع غزة، أو زيارة سريعة إلى الأغوار. التفاؤل يأتي من الأمل في تغيير جذري في فكر ومنهج القيادة الفلسطينية والأحزاب السياسية، وهذا يتطلب البحث عن أدوات جديدة، للاتفاق عليها نحن بحاجة إلى التفكير بصوت عالي وسرعة العمل، قبل انهيار منظومة الحقوق والحريات الحامية لكرامة المواطنين. هذا التفاكر يجب أن يُشارك فيه كل مكونات الشعب الفلسطيني، في غزة والضفة والداخل والشتات، فكل فرد منهم له حق في حياة كريمة على هذه الأرض.