لا يمكننا فهم ما تقوم به الادارة الامريكية تجاه فلسطين دون فهم السياق العام. والسياق هو حالة إقليمية مهترئة وبائسة يبحث فيها كل نظام عن خلاصه الفردي ومستعد للتحالف مع الشياطين لتحقيق ذلك وحالة فلسطينية منقسمة ومنهكة من الاحباط والانشغال بصغائر الامور والتفكير الخشبي الفاقد للإبداع. دولياً، السياق هو حكومات جبانة مستعدة للتضحية بنا في سبيل عدم الخوض في مواجهة كبرى مع ترامب وتخشى أن يتصرف الفلسطينيون بشكل صحيح واستراتيجي فيفرضوا عليها تلك المواجهة لحماية المنظومة الدولية برمتها. شعبياً، نسبة المؤيدين للقضية الفلسطينية في تعاظم مستمر وخاصة في الولايات المتحدة، حيث تحولت السياسات المتعلقة بإسرائيل لعنوان من عناوين الاستقطاب الداخلي لأول مرة منذ عقود وبحيث تتركز القوى الداعمة لفلسطين في المعسكر المعادي لترامب وسياساته، تحت عنوان احترام كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. كل هذا في ظل إدارة مرهونة لأهواء رجل أرعن ومحاصر بتحقيق يمكن أن يودي به إلى السجن؛ رجلٌ يلفظه شعبه وتحتضنه أكثر التيارات يمينية وتطرفاً وعنصرية في أمريكا وإسرائيل. ترامب اعتاد على أخذ ما يريد عنوة والدوس على الضعفاء دون تردد.
إذاً، نحن لسنا وحدنا. لكننا مطالبون بكثير من النضج والحكمة حتى نتمكن من استثمار مكامن القوة الموجودة ومواجهة الطوفان القادم. دون معالجة ما تعتريه ساحتنا الداخلية من وهن وضعف وعوامل هزيمة، سنكون لقمة سهلة في فم الغول. وحتى لا يلتهمنا هذا الغول، واجبنا أن نتحلى بالصراحة والشجاعة في تقييم حالنا وكيف لنا أن ننهض به.
قبل أيام، طالبت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الحكومة بإعداد الخطط والاقتراحات لكيفية فك الارتباط مع إسرائيل، تماشياً مع قرارات المجلس المركزي قبل أقل من شهر. لكن السؤال الذي يفرض نفسه في ظل هذا النوع من دحرجة الكرة هو هل هذه الحكومة قادرة على إعداد خطة من هذا النوع وتنفيذها؟ وحتى نكون موضوعين، علينا أيضاً أن نسأل ما إذا كانت اللجنة التنفيذية قد طرحت رؤية واضحة لنوع فك الارتباط وخطوطه العريضة حتى تستطيع أي حكومة ترجمتها لخطة عملية قابلة للتطبيق.
وبما يتصل بفك الارتباط والتهديدات الأمريكية الواضحة بوقف المساعدات المالية وفي ظل الانخفاض الملحوظ لدعم المانحين للموازنة العامة في فلسطين خلال السنوات الماضية، لا يبدو أن هناك رؤية واضحة لما هو مطلوب من أي حكومة في المرحلة الراهنة. على العكس من ذلك، لا زال الخطاب الحكومي يتحدث عن بناء مؤسسات الدولة وخطط التنمية والتحصيل الضريبي وكأن شيئاً لم يتغير وكأن الحل لما نواجه من مخاطر هو أن نتجاهل المعطيات الواقعية والمخاطر الحقيقية التي يقر الجميع بوجودها.
الحديث عن فك الارتباط يجب أن يكون متزامناً ومرتبطاً بشكلٍّ عضوي مع تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وبما يضمن التصدي لما هو قادم من ضغوطات عظيمة وابتزاز ماليٍّ وسياسي سيطال جميع فئات المجتمع ويؤثر بشكل أكبر على الفئات الأضعف في المجتمع. لكن الخطاب الحكومي حتى الآن لا يعكس أخذ هذه المخاطر في الحسبان، ناهيك عن الالتزامات الإضافية المتوقعة من تطبيق المصالحة فيما يخص الرواتب وإعادة الإعمار وغيرها من الأولويات الملّحة. هذا بالإضافة إلى الأزمة الإنسانية التي يكابدها الفلسطينيون في سوريا ولبنان على وجه الخصوص ومسؤولية منظمة التحرير المباشرة تجاههم.
تعزيز الصمود بحاجة لموارد مالية وسياسات تعكس أن المواطن يأتي فعلاً وبشكل حقيقي، أولاً. بمعنى آخر، يحتاج إلى موازنة صمود تعكس رؤية ومنهجية مختلفين ونضجاً سياسياً يعيد ترتيب الأولويات ويتخلى عن قشور الدولة لصالح جوهرها. وفي هذا السياق، يصبح لزاماً التساؤل حول ما يُنفَق على المجلس التشريعي المعطل على سبيل المثال لا الحصر. لماذا يستمر دافع الضرائب في دفع رواتب ومخصصات أعضاء المجلس التشريعي بالرغم من أن المجلس معطل منذ 11 عاماً ولماذا لا يتم مراجعة القانون الذي يوفر للأعضاء السابقين والوزراء السابقين نسبة من الراتب، مهما كانت متواضعة، مدى الحياة؟ لماذا لا تحول هذه النفقات التي لا تخدم دافع الضرائب الآن إلى ما هو أهم ولو بشكل مؤقت؟
لذلك، وحتى نتمكن من تشكيل تحالف دولي حقيقي وقادر على حمايتنا ومقتنع بطرحنا، علينا أيضاً أن نكون مقنعين بأفعالنا وسياساتنا الداخلية وإنهاء الازدواجية الموجودة بين ما نطرحه من احترام للقانون الدولي وحقوق الإنسان وما تمارسه مؤسسات الدولة من ممارسات تتناقض مع هذا الطرح. علينا أن نعترف أن التجاوزات الموجودة والمتكررة لحقوق الإنسان والتعديات الأخرى على أسس العقد الاجتماعي يجب ان تنتهي. لا يمكن أن تستمر هذه الانتهاكات إذا ما أردنا حماية جبهتنا الداخلية من الهشاشة الموجودة وإذا ما كنا جديين فعلاً في فرض أجندة القانون وحقوق الإنسان عنواناً لمعركتنا الوطنية. يتوجب علينا أن ننسجم مع طرحنا فعلا وقولاً وأن نعفي أصدقاءنا من عبء الدفاع عنا من الانتقاد في مجال حقوق الإنسان حتى يتمكنوا من التفرغ للدفاع عنا في مواجهة إسرائيل في ظل إدارة ترامب.
لا ينكر عاقل حجم المخاطر التي تواجه القضية الوطنية وحجم المؤامرة وتعدد ترجماتها. ولا ينكر أحد أن اختراق الجبهة الداخلية من خلال بث الشائعات والأخبار المزيفة هو أسلوب مؤثر ومؤلم وخطير. لكن تجارب الشعوب تثبت أن النهج الأمني الخالص ليس ناجعاً أو كافياً لحماية المجتمع، تماماً كما أن الضبابية وحصر التواصل مع المجتمع في التلقين والتوجيه ودون شفافية ليسوا سبيلاً لخلق رأي عام داعم، خاصة في ظل ثورة المعلومات التي نعيش.
فك الارتباط وتعزيز الصمود ومواجهة محاولات تصفية القضية تتطلب الصراحة والوضوح في الرؤى والخطط والطرح. وحتى يتأتى كل ذلك، علينا واجب الحديث والنقاش بصراحة ومسؤولية. غول التصفية يتربص بنا جميعاً ومواجهته. إما أن نتحداه موحدين وبكرامة لا تستثني أحداً أو أن نقع فريسة معاً.