العالمُ، وفي أشدّ فصولِه أنوثةً تجتاحُه أمواجٌ مظلمة من العنف والدم، وتتوّجه الذكوراتُ القديمة بكثير من الموت البشع، وتحيطه بركام من الجثث التي لا تجدُ مكانا تهجع فيه، أو تستر في جوفه ما تبقى فيها من أشلاء عارية. العالم يُصبِح أكثر دموية مما كان، وأقلّ أنثوية مما يجب أنْ يكون عليه. كل شيء غارق في عويل قاتل: تبكي الأمّ على بقايا وليدِها البكر حتى تجفّ العين والكبد، تبكي الرصاصة الهامدة في صدرِه عليه، يئنّ الخنجرُ أمام المذبوحين، وتثمل الأرض بنبيذ الدّم فتعربدُ وتختلُّ، على صدرها المطعون، موازينُ الأشياء. هكذا تتغلّب الذكورة كعادة التاريخ على أجمل الفصول أنثوية، هكذا يفقد الربيعُ الأنثويّ احتمالاتِه الجمالية المستحيلة التحقق في واقع خشن الملمس، بل بهذه الطريقة تتساقط ثمراتُ البهجة المنتظَرة ذابلةً أمام مدنٍ تتساقط تاركة وراءها أطفالا بلا بيوت، مزهريات بلا شرفة لاستراق النظر، حكايات رائعة بلا جدّات ولا سقف، نوافذ بلا حبيبات متنمّرات كنّ يصطدْنَ «مكتوبهنّ» من أعالي العمارات. وإذ تحترق أشجار البيوت الأنيقة مثل «أنجيلينا جولي» تحترق كذلك أشجارُ السلالة تحت وابلٍ من القذائف الحاقدة وتتهاوى أوراقُها لتسترُ ما تبقى من العائلات المقتولة أو المحروقة أو المذبوحة.
بعدَ هذا-لا ريب-سيُنزلُ الفناءُ جفافَه على كل شيء، وستجفّ الأنهارُ المتدفّقة بشبق جنسيّ على جسد الأرضِ المؤنث كما تجفّ أرواح البشر الطيبين العالقين بين الموت والقيامة؛ الغارقين في ظلماتِ الظلم.سيخرج الدجّال الأعمى ليوقظ في الإنسان صهيل «التارميناتور»، ستنسحق الروحُ أمام ضحكات التراب الخبيثة الصفراء.
حطّمْ مصباحَك يا ديوجين الطيّب، لا بشر تحت شمس هذا الزمن العمياء، مات الإنسان في فصل ولادة الإنسان، هلك الناسُ تحتَ وطأة يدٍ ذكورية دكتاتورية لا تؤمن إلا بخراب العالم.
كنتُ سأسأل القصيدة أنْ تسألَ مصباحَ ديوجين الطيب ماذا يرى؟ كنتُ سأسألُ.. لولا أنّ القصيدة صارت بكماءَ لا تجيب، والمصباحَ صارَ أعمى، ومع هذا كان سيخبرُها بأنّه يرى الأشياء تفقد أنوثتها التي تغمر العالم بفيضٍ من الحبِّ، وبأنَّ العالم يتذكّر، يصبح موئلا للعقد البائسة وللعنف الخارجِ لتوِّه من الجحيم، وأنّ الإنسان البائس صارَ غذاءً لأحذية المجرمين، وأنّ شلالات الدم الدافق ستُدخِل الأرض في الثمالة وتخرجها عن مسار دورانها الأزلي فتصطدم بكوكب في الجوارِ كما يصطدم جسدُ طفل صغير بدبّابة خارجة عن مسارِها الحقيقيّ، وأنّ الرصاصاتِ الطائشة قد أصبحتْ أمّةً من الطير تجولُ في الجهاتِ مخترقة اللحم والعظم، وأنّ الموت-تماما مثل رؤساء الأحزاب السياسية-يغري الناسَ بالانخراط معه من أجلِ النضال ضدّ الحياة.
هكذا..كان سيقول مصباح ديوجين لولا أنه أعمى، وهكذا كانت ستخبرني القصيدة لولا أنّ لسانها مقطوع في هذا العصر الصموتِ كحجر تافهٍ مملّ. غيرَ أنّ الحالَ لا يحتاجُ إليك يا ديوجين ليكشف عن سوء حاله، والجثثَ المتسكّعة في الطرقات وحيدة إلا من أشلائها المحترقة ليستْ في حاجة ليضيئها مصباحُك أيها الطيّب فهي تملأ الشوارع وتسدّ مجالات الرؤية، كما أنّ البطون الجائعة وقد أودتْ بأصحابها الفاقة صارتْ تعبّر عن ذاتها بالأشعار والأغنيات، وفي أحايين كثيرة بالصمت الجميل(على وزن الصبر الجميل)
مرآة لمصباح ديوجين الأعمى:
على عويلٍ
تدورُ الأرضُ حاملةً جرحا قديما
ونهرًا..
ماؤه نارُ
تدورُ حزنا
على ما كانَ من فرحٍ
تدور حزنا كما الموتى بها داروا
ترى «ديوجينَ» في أدغالِ حيرتهِ
يسائلُ العشبَ:
أينَ الأهلُ؟ والدارُ؟
مرّوا جنوبا
يدُ الأحزانِ تحملهم
صوب الغيابِ..وفي بيدائه ساروا
تقاسموا خبزَ موتٍ
في منازلهم..
ومُنْيَةً تحتَ حرّ النفي تنهارُ
على عويلٍ..
غدتْ أرواحُهم شجرا لليتمِ
مشتعِلٌ في صدرهِ العارُ