الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

النص الموازي... ودلالة الليل في شعر الشاعرة التونسية نائلة عبيد

بقلم: أمين دراوشة

2018-02-08 09:28:09 PM
النص الموازي... ودلالة الليل في شعر الشاعرة التونسية نائلة عبيد

 

تكتب الشاعرة قصائدها من الألم النابع من داخلها، وتنتقل من الحديث عن وجعها الذاتي إلى وجع الوطن كله.

 

وهي تملك أدواتها الشعرية، فلغتها متدفقة دون حواجز، وصورها مبتكرة وغريبة، وفي هذه القراءة سأتناول دلالة الليل في شعرها، إذ تكثر الشاعرة من ذكره في قصائدها.

يبحث الشاعر دائما عن عنوان لديوانه ليعبر به عن دلالة النص، فالعنوان يعبر عن أفكار القصائد بالرمز والإيماء.

 

يختار الكاتب العنوان الرئيسي بشكل قصدي ليعبر عن النص دلاليا. فالعنوان هنا يعبر بالرمز والإيحاء عن فكرة العمل الأدبي، وهو "نسق مهيمن"

(1)

على محتوى الشعر بحيث تكون قصدية النص ملخصة فيه، ولهذا فهو جاء "تعبيرا عن رؤية الخارج إلى الداخل وليس العكس".

 

(2) أما العناوين الداخلية فهي ذات دلالة واحدة لأنه تعبر عن محتوى القصيدة.  وجاء كلمة "العنوان" في لسان العرب في باب العین وفي مادّة "عَنَنَ": عنّ الشيء یَعن ویعُنُّ عنَنَا وعُنوانًا: ظهر أمامك وعَنَّ ویَعنُّ عنًا وعُنوانًا، واعتنّ: اعتَرضَ وعَرض. وعَننتُ الكتاب وأعننتُه، أي عرضته له وصرفته إلیه، وعَنَّ الكتاب یَعنهُ عنّأ وعنّنته: كعَنونَة وعَنونَته بمعنى واحد مشتق من المعنى".

 

(3)

إن العنوان، "بوصفه ملتبسا، هو تلك العلامة التي بها يفتتح الكتاب: من هنا يجد السؤال الروائي نفسه مطروحا، وأفق انتظار القراءة معينا، والجواب مأمولا. من العنوان".

(4)

إن القارىء يجهل ما في داخل النص، وهو بحاجة لعنوان يبدد القليل من عدم اليقين، حيث تكون القراءة، "هذه الرغبة في معرفة ما يسترعي الانتباه على الفور كحاجة للمعرفة وإمكانية لها (وبالتالي باهتمام)، مثارا".

(5)

لديه بمركزية الاشعاع على النص".

(6)

إن النص الموازي هو كل ما يحيط بالنص دون أن يكون هو النص، وهو له أهميته في ما ينتظره المتلقي، ويعتبر العنوان أبرز التمظهرات. وحدد فانسون وظائف العنوان، وقال إن هناك وظيفة تحدد نوع الكتاب، ووظيفة وصفية إذ يقول العنوان شيئا عن النص.

 

ووظيفة إيحائية توحي بالمعاني التي يتضمنها النص، والوظيفية المهمة جدا "الإغوائية" وكون العنوان تشكيلا بصريا له قيمته في عرض العمل الأدبي، فهو يشدُّ انتباه القارىء ويحرك فضوله.

 

وقع اختيار الشاعرة على عنوان "حافية على ناصية الرّحيل" وهو عنوان مثير، ويغوي القارئ بدخول إلى النصوص ليرضي فضوله. إن كلمة "حافية" تحوي الألم والمرارة والقهر والخسارة، والاستعداد للرحيل يشير إلى الصعوبات والعوائق التي تقف كالجبال أمام طموحات الشاعرة، لذلك لم يكن بدا من الرحيل، وآزر الإهداء العنوان الذي جاء ليتضمن معاني النصوص، تقول الشاعرة في الإهداء:

"إلى الأشقياء مثلي

إلى من سُلِب الحياة بغير ذنب

إلى القلوب المحلّقة في سماء الوهم

أُهدي حرفي علّه يخفّف عنهم  وعنّي

وطْأة الجُرْحِ".

 

(7)

وعلى صفحة الغلاف الخلفية، كانت قصيدة "ضيـــــــــاع":

"سَأَقِيسُ بِحَبَّةِ قَمْحٍ

الفراغَ الجاثمَ

على ذاكرة الضّياع

ثمّ أهمس في أُذن الرّيح

"لا وقت نُضَيِّعُهُ في الجدال "".

 

والتي تعبر عن الخواء والضياع الذي تحياه الشاعرة إلا أنها ستقاوم الاغتراب والتيه، وستضع خلفها كل الألم وتنطلق باتجاه الغد بثقة وإرادة لا تلين.

 

أما لوحة الغلاف فجاءت بلون أحمر غامق شبيه بالدم، يثير القارىء، ويهزه من الداخل، وصورة قدمين حافيتين على أرض قاحلة ومتشققة، وكتب كذلك عنوان الديوان بالأحمر، ولتخفيف حدة اللون الأحمر الغامق، كُتبَ اسم الشاعرة باللون الأبيض دلالة البراءة، والأمل بالمستقبل.

 

إذن القصائد تتناول حياة صعبة، وضياع في الحياة نتيجة الهموم والصعويات، غير إن الشاعرة توحي إنها ستتجاوز كل العقبات من أجل الوصول إلى هدفها.

 

دلالة الليل

تعتبر رمزية الليل من أكثر الرموز المستخدمة في الشعر العربي قديمه وجديده، ومنه يتناولون المعاني العميقة، ومنه يأخذون حاجتهم من الصور، وهذه الرمزية أختلف استخدامها من شاعر إلى آخر، فهناك من هرب من جحيم الضوضاء في النهار إلى الليل، ليعيش مع نفسه الهدوء والسكون، وهناك من أتخذه دلالة للجمال وصفاء الذهن والهيبة، غير أن بعض الشعراء اتجهوا لاعتبار الليل رمز للسواد والظلام، والحصار، ووحش يأكل أحلامهم وفرحهم.

 

إن الوصف ركيزة من ركائز الشعر العربي، فوصف الشعراء مظاهر الطبيعة بما فيها من إنسان ونباتات وحيوانات وجماد، كما وصفوا الحرب...، فالوصف أداة الشاعر في معالجة أغراضه الشعرية. فكيف وصفت الشاعرة الليل؟

 

في القصيدة التي اختارتها الشاعرة لتكون عنوانا لديوانها، تقول:

"ثلاثون سنة من القحط مرّت

ثلاثون ألف صرخة اخترقت الجسد

ثلاثون ألف دمعة هطلت

و تلك الأنثى الواقفة على قمّة الهاوية

تظفر خصلات الــــــــــــوجع

ترمّم أضلع الشّوق

تختلس بعض الحلم

لتحيى".

 

ولكن الليل لا يساعدها، فهو طويل ولا يترك للشمس فرصة أن تشرق بسرعة، وطول الليل دلالة المعانأة والمرارة:

"اللّيل طويل

ينساب إلى تجاعيد عزلتها

 

وعلى وسادتها تهاوت ألف آهــة

الشّـوق يطلق صرخات الوداع".

 

القصيدة تتحدث عن جبروت الوحدة، ومرارة الفقد، فالحبيب في القصيدة إما قد خطفه الموت، أو مسافرا في غربة طويلة كالليل، وتضيف:

".....

وتلك الشّــفاهُ الضَّـــمْــأَى

تقتنص قُـبْـلةً باهتةً

بَعْــثَـرَتْها غياهب النّسيان

و جسد الحبيب

يتهاوى

والدّمع المنحبس في الحلق

يُلْقي بها إلى دهاليز الغياب

ماذا لَوْ مَنَحَــتْــهُمَا الآلهة فرصةً أخيرةً

و أهْدَتْهُ عمرا آخر من عمرها ؟!

ماذا لو ارتشفتْ أنفاسه لِـيُـبْـعَـثَ من جديد ؟"

 

والليل يعني الوحدة، ووقت للإختلاء بالنفس، والذكريات التي تمر في ذهن الساهر، وإذا كانت الذكريات مؤلمة قد يهرب الشخص إلى عالم الأحلام...

 

وذكريات الشاعرة القديمة تعود دوما، تخلخل هدوء الليل، وتمحي قمره ولا شيء يبقى غير العتمة والسواد، تقول:

"الذّكريات المحفورة في الصّدر

تُرْبِكُ اللّــيل

تغتال قمره

تسقط في العتمة

الأيادي المتعرّقة تمتدّ

تغتصب جسدا منذ عقودٍ أَفِـــلَ

و أشلاء أحلام

و فرحًا غادر

و دماءً فقدت لونَها... طعمَها

 تخثّـرت".

 

وفي الليل المعتم الذي يزيل ملامح السنين، والوحدة القاتلة والحبيب الغائب، تشتهي الموت "أترى شبابيك المنايا

أوصَدَت الآذانَ دونَها"

 

وتكرر الشاعرة متلازمة "اللّــيل طويــل... طويل... طويل" وتتحول النجوم من رمز للجمال والسمو إلى نجوم حزينة لحزن الشاعرة التي تفتقد الحبيب الغائب، وتنتحب لأنه لم يبق لها سوى شبحه، ولا تجد سلوتها إلا بالموت:

"الموت المُشْـتَهَى يُراقصه على نار لوعتها

يُراودها

تُوغِلُ رأسها بين أضلعه

يرتميان في سراديب الضّياع".

فالليل كان رمزا للذكريات الجميلة التي لن تعود، ورمزا للتيه والضياع في غياهب الحياة القاسية.

 

وفي قصيدة "يرفع القصف عقيرته بالصّياح" تشعر الشاعرة بالاغتراب والضياع، فلا شيء في بلادها غير القصف المجنون بالقنابل، وتتسأل: ما جدوى الحلم؟ وسط كل هذا القتل والدمار، تقول:

"يسكرون من نبيذ دمائنا

يقتاتون من فتات لحمنا

اللّـيل ينكسر...يؤجّـجون في القلب الحريق

يرفع القصف عقيرته بالنّباح

طبول الصّمت تُقْرَعُ

الأجساد تتهاوى...

من يقتلع ألغام الحزن من قلبي ؟!

من يُعيد الجنينَ إلى رحم أمّي ؟!

من يغلق حنفيّة الدّم في بيتي ؟!

من يجمع أعضائي المتناثرة على قارعة الطّــريق ؟!

هكذا صاح الوليد

هكذا صرخ الشّـهيد"

فطوال الوقت تزف الأرض الشهيد تلو الشهيد، ولم يعد في الحياة ما يثير الشهية، حتى الأرض الحنون انكرتنا:

"غُرباء نحن

ليلنا منخور بالوجع

و أمامنا سُدّت كلّ المعابر

الحكّام باعوا

العملاء باعوا

جُلُّنا باع القضيّة

جُلُّنا ضلّ الطّريق".

والليل تحول إلى سجن، ومرتع للألم الذي لا ينتهي.

وفي قصيدة "متى ينطفئ ضوء الحريق ؟" تقول:

"....

كيف جعلنا لحمَ أكبادنا رغيف ؟

كيف التحفنا صقيع اللّيالي

كيف شربنا الهزيمة من كؤوس الرّصيف ؟

لِمَ الصّمتُ ؟

متى ينطفئ ضوء الحريق ؟!

متى يُعاد لعيون الثّكالى سحر البريق؟".

 

فالليل رمز لغربة النفس، وصقيع الحزن الدامي، ولكن الشاعرة لا تستكين، وتستسلم للموت والضياع، فتقول في قصيدة "أصنع من حروفي أغنيات" التي يكثر فيها أسلوب الاستفهام، وتتسأل متى ينتهي كل هذا الظلام والوجع والدموع المتساقطة، وتجد الطريق إلى المطر والربيع. تقول:

"أين فأسي و رفشي ؟

أين فوضاي و نعشي ؟

سأقتلع عشب الغدر من أرضي

أفكّ كل القيود

ركعة واحدة للعشق تكفي

يا زخّةً من مطر الرّبيع

أيا ينبوع فخر

مدّي لي يديك

افتحي لي الطّريق".

 

وفي قصيدة "لا نقوش على جدار الحلم"  تهجم الشاعرة الحكام الذين يطربون لرؤية الجثث، ويستلذون في جلوسهم على كرسي الحكم فوق حيوات مليئة بالقهر والظلم، وتصفهم بالغدر والخيانة والحياة دون ذاكرة، تقول:

"يحيكون من خيوط الغدر

رداء يسترون به عورة خطاياهم

ملعونة هذه الخفافيش

 الّتي استباحت نور الشّمس

ملعونة عربدة اللّيل

على خرائط الخراب" فزمانهم هو زمن الليل المتخم بالألم والدم.

 

وفي قصيدة "من قاع البؤس يأتي ذاك الصّدى" تتحدث عن الألم الذي ستحوله إلى زورق تسير به نحو شاطئ الأمان، ولكن الطريق طويلة، لذا نراها تقظم أظافر الليل الذي لا يريد المغادرة، تقول:

"موجوعة بما يكفي

لأصنع لي من ألمي

زورقا

ينساب في شراييني المتكلّسة

يأخذني إليّ

أتسلّقني فجيعة

وجيعة

أقضم أظافر اللّيل متلهّفة

أتسكّع في شوارع منفاي

شاخصة".

 

ولكنها لا تيأس، وفي قصيدة "مستمتعة بتطريز الحرف" ستقاوم الليل، وتهزمه، تقول:

"مُثْقلة بما يكفي

لأنتعل غبار الدّمع

و أمضي ...

الجدار المعلّق على بابي

كلّما اخترقته

تعثّرت في حجر الذّاكرة

سأركل الذّكريات المعطوبة

و أسحل ذيل اللّيل

ساعدّ مأدبة على شرف نخوتي"

فظهر الليل كحيوان قبيح يحتل غرفتها، ولا بد لها من إخراجه ليفسح المكان للفجر.

 

وإن امتلأ الديون بألوان الحزن والوجع إلا أن الشاعرة، ستجد دربها وستنطلق كالنوارس فوق البحر وسط شمس الحرية التي لن تغيب. تقول في قصيدة "لم يعد ثمّة ما يهمّني":

"أيّها الزّمن المثقل بالرّحيل

لم يعد ثمّة ما يهمّني الآن

سواي

ها قد أنهكتني همومي الباطلة

أَطْلِقُوا سراح شمسي

نوارسي".

 

وفي قصيدة "أنثى في المزاد" من ديوانها الجديد "من قاع الجرح أمد يدي" الذي لم يصدر بعد، تستخدم الليل بطريقة مختلفة، تقول:

"...

في داخلي

ذاك الشيء الشفيف

الذي لا يفهمه سواي

أنثى ترمّم احلامها

تقيس الخطو

على مقاييس غيرها

تقف يوميّا أمام مرآتها

لتعدّل من تضاريسها

لا شيء يبقى على سجيّته

لا الشّفتان الواجمتان لها

ولا الصّر صدرها

هذا كان حكمهم...".

 

فهي تبدو في النهار على غير سجيتها، ترتدي من الملابس ما يوافق الناس والعادات والتقاليد البالية، فتخبىء مفاتنها، وتظهر كفتاة غير نفسها، أما الليل فأصبح رفيقها الذي تبثه أشجانها، تقول:

"لا شيء يؤنسها غير

لحظات الليل الموحشة

حين تدفن رأسها

وتلبس أنوثتها

حينها تكون كما تشتهي

أنثى كاملة

بشفتين مكتنزتين كحلم

وصدر متوهّج

و

صوت كأغنية

هكذا كانتتشتهي دوما

أن تكون...".

 

استخدم الشعراء الرومانسيون رمزية الليل بكثافة، والرومانسي يتخذ "من الليل مستودعا لأسراره وهمومه".

 (8)
فالليل هو الزمن الوحيد الذي تكون فيه على سجيتها، وتفعل فيه ما تريد بعيدا عن أعين المراقبين والمتزمتين. وبعد أن كان رمزا للهم والتوتر والرعب، تحول إلى زمن محوره الفاعلية والحياة. وملاذا آمنا تظهر فيه الشاعرة ما يعتمل في قلبها، وتعبر عن نفسها وجسدها بالغناء العذب. 

 

 

 

 

الهوامش

1- سلمان كاصد. عالم النص. بغداد: منشورات دار الكندي. ط1. 2003. ص 18.

2- المرجع السابق نفسه.

3- أبو الفضل جمال الدین ابن منظور: لسان العرب، المجلد 4، مادة عنن من باب العین، بيروت: دار صادر للطباعة والنشر، 997 ، ص315.

4- فانسون جوف. شعريّة الرّواية. ترجمة لحسَن أحمامة. دمشق: منشورات دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر. ط1. 2012. ص 23.

5- المرجع السابق. ص 23).

6- سلمان كاصد. مرجع سابق. ص 15.

7- نائلة عبيد. حافية على ناصية الرَّحيل. تونس. ط1. 2016م.

8- محمد سلام زغلول. النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهات رواده. الإسكندرية: منشورات دار المعارف. دون تاريخ. ص 127.